اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: أندرو وايث، الرسم أثناء النوم

باليت المدى: أندرو وايث، الرسم أثناء النوم

نشر في: 9 مايو, 2021: 10:18 م

 ستار كاووش

أثناء جولتي في متحف بورنميزا بمدينة مدريد، اقتربتُ من لوحة للفنان أندرو وايث (1917 2009-) وهناك رأيتُ امرأة تحاول أن تمد إصبعها نحو اللوحة وهي تقول لصديقتها بتعجب (كم يبدو حقيقياً هذا البلوفر الذي ترتديه المرأة في هذه اللوحة، انظري الى فتلات خيوط الصوف البارزة التي تلتمع تحت الضوء!).

كان هذا انطباعاً عن أعمال وايث، قالته امرأة عابرة تزور المتحف، وهي محقة في تعجبها وانبهارها بطريقة الرسم، لكن المشتغلين بالفن والمتخصصين بالجمال يذهبون أبعد من ذلك ويقولون الكثير عن تقنيات ومعالجات وأعمال هذا الفنان الساحر والمحبوب وصاحب الشعبية المذهلة في أميركا والعالم، حيث يضعونه بمصاف الفنانين العظام الذين وجدوا لهم مساحة مهمة في تاريخ الفن.

حصلَ أندرو في بداية شبابه على دروس في الرسم من والده فنان الرسوم التوضيحية المعروف نيويل وايث، وعند اقامته لمعرضه الشخصي الأول سنة 1937وهو في العشرين من عمره، نجح نجاحاً غير متوقعاً ومدهشاً، لتأخذ أعماله طريقها الى قلوب الناس وتباع بسرعة لم يكن يحلم بها. ورغم أن الفن التجريدي هو الذي كان سائداً ومنتشراً ومؤثراً وقت ظهور وايث، لكن ذلك لم يقلل من سطوة وتأثير لوحاته التي لاقت إقبالاً منقطع النظير، حيث يقتنيها الناس فور انتهائه من رسمها، وأحياناً حتى قبل أن تجف ألوانها. تملكُ أعمال أندرو وايث سحراً وخصوصية عالية، وباليت ألوانه شخصي جداً، هذه الألوان الترابية التي يأخذها من لون الأرض. وهو يستخدم عادة ألوان التيمبرا الممزوجة بالبيض، وتقنيته التي يعالج بها لوحاته تسمى (الفرشاة الجافة)، التي قدم لنا من خلالها لوحات تبدو واقعية من أول وهلة، لكن حين نمعن النظر فيها ونتأمل الضوء والتفاصيل الدقيقة التي تشبعت بها، نحلق معها في مناخات غامضة وواقعية سحرية من نوع خاص، حيث تحمل كل واحدة من هذه اللوحات كمية عالية من المشاعر والعاطفة التي تشير الى عزلة الناس وتأثير الأماكن العادية القديمة وحتى البالية في ريف بنسلفانيا، تألم هذا الرسام بشدة بعد وفاة والده، وأخذَ يرسم الناس كثيراً ويمنحهم مسحة عاطفية عالية، هو الذي لم يضيع دقيقة واحدة من حياته دون ممارسة الرسم أو التفكير به، يدخل المرسم لينشغل في الرسم وتحضير اللوحات والتخطيطات والتفكير في لوحات جديدة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ففي أحيان كثيرة يظل يحرك أصابعه حتى أثناء النوم، وكأنه يهيء نفسه ليوم غد حيث تنتظره لوحة جديدة، وقد كتبت زوجته عن ذلك بعد أن شاهدته مرات عديدة يحرك أصابعه وهو نائم وكأنه يرسم مشهداً في الحلم !

المتعة الوحيدة التي كانت لدى وايث خارج الرسم هي زيارة الجيران في بعض الاوقات، حيث يجلس هناك وهو يتأمل زوايا الغرف والأقداح التي تستقر على الطاولات والضوء الذي يدخل من النوافذ وكذلك إلتماع الأرضيات الخشبية، يتأمل ذلك بصمت -كما يذكر جيرانه- ليخرج بسرعة مثل الشبح دون أن ينتبه إليه أحد، منطلقاً نحو المرسم ورأسه مليء بالكثير من التفاصيل التي يدخلها في لوحاته الجديدة. وتعتبر لوحة (عالم كريستينا) أشهر لوحاته، وقد رسم فيها جارته وهي تزحف نحو بيتها الذي يقع في مكان مرتفع، لأنها كانت مصابة بأرجلها، وكانت اللوحة بمثابة تحية لشجاعتها رغم المصاعب والظروف القاسية التي تحيط حياتها، وهي تُعَد أشهر لوحة في الفن الأميركي وأيقونة مشهورة في كل العالم.

في الأعوام 1971 - 1985 رسم وايث مائتي لوحة لجارته ذات الأصول الألمانية (هيلغا تيستورف)، والمثير أنه رسم تلك اللوحات بشكل سري وأودعها عند أحد أصدقائه. وهذه المجموعة من اللوحات حصلت على مكانها اللائق في تاريخ الفن، وعُرفت ب (لوحات هيلغا) وبينها الكثير من البورتريهات العارية. وعند اكتشاف هذه اللوحات وقف عالم الرسم برمته على أطراف أصابعه من شدة المفاجأة، وإنشغلت وسائل الأعلام كثيراً بهذا الحدث المهم. ورغم انزعاج زوجته من الموضوع لكنها فرحت باللوحات كثيراً واستقبلتها بحفاوة بالغة كأفضل أعمال زوجها، وهكذا صارت هيلغا بمثابة واحد من أفراد العائلة حسب تعبير وايث، هي التي اهتمت به وبقيت معه في المرسم حتى تجاوز التسعين من العمر.

نادراً ما نرى رساماً في كل تاريخ الفن قام برسم الضوء كما رسمه أندرو وايث، وخاصة الضوء الساقط على الجدران والوجوه والتفاصيل الصغيرة التي تشم معها رائحة الريف الاميركي. وقد قال ذات مرة في فيلم وثائقي حول فنه، إنه قضى كل حياته يرسم الأكواخ ومعدات العمل وتفاصيل الأكواخ الريفية، وهذا ماتريده زوجته التي كانت تفضل بيع أعماله على أي شيء آخر في العالم، بينما لوحاته التي رسمها ل (هيلغا) أرادَ أن يتبع فيها خطوات روحه ويرسم ما يريده كرسام، هيلغا التي ينبعث الضوء من وجهها وجسدها الوردي، ذلك الضوء الذي غمر حياة الرسام وجعلها دافئة الى الأبد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram