أسامة الشحمانيجنيفإنَّ تغيَّر الاسم لا يعني بالضرورة تغيَّر الهوية وإنما يشير الى زوال الشخصية عن مسرح الحدث و بزوغ شخصية أخرى، وإنَّ تداخل الشخصيات فيما بينها لم يبعدها عن تغيِّر كل شيءٍفـي قيمها الخارجية
تقعُ المرجعية البرَّانية لخطاب الهوية داخل شفرة إفتراضات موروثة، ومنظومة من الحاضنات الروحيِّة والآيديولوجية، التي تزعم حفظ وحماية الأبعاد الشخصية للإنسان من التصدع، والهوية بهذا المعنى هي من بين المفاهيم حديثة الإنتقال من الدراسات التاريخية والفلسفية الى فنون الأدب ومناهج النقد الأدبي، وكان لإرتباط هذا المفهوم بالعديد من الأحداث السياسية والوقائع الإجتماعية والثقافية التي فرضتها الأنظمة الإستبدادية أثر في دفعه الى واجهة التشكل ثمَّ التجذر في تراث الإبداع الإنساني وفي النهج الحياتي للتعامل مع الأزمات والحروب حيث يتخذ تغيِّر الهوية طابعاً دفاعياً أو إجراءً وقائيِّاً مقاوماً للعنف والموت المجاني. في كتابه (الهويات القاتلة) يؤكد أمين معلوف على إنَّ جميع المجازر التي وقعت في السنوات الأخيرة، كما إنَّ جميع النزعات الدموية مرتبطة بمشاكل معقدة وقديمة تندرج ضمن ملف الهوية. وقد لا يختلف إثنان على إنَّ المجتمع العراقي هو أحد أكثر المجتمعات التي عانت إغتصاب/إستلاب/فقدان/إلتباس الهوية على الرغم من كونه من المجتمعات ذات الأصول الحضارية القديمة، التي سعت وبكلِّ قوة لأن ترسِّخ حقيقة البعد الإنساني لوجودها، و مثَّل إرتقاؤها على سلَّم الحضارة شعوراً وجودياً عميقاً لدى العقل الجمعي لأفراد، حتى أصبح بالنسبة لهم منبع الهوية وقوام صلة الفرد بذاته الثقافية أو تمحوره حول علاقات إنتماء حضارية ليست أسيرة مواضعات تقليدية من قبيل الطائفة أو القومية. ولم تزل القيمة الجمعية للهوية الحضارية العراقية محتفظة بكينونتها الى حدٍ ما برغم ما لحق بقشرتها الخارجية من تغيرات، أفضت إليها ما عاشه العراق وما شهده مسرحه الإجتماعي من أحداث وهزات جسام. وقد إستعرضت الرواية العراقية الحديثة، بوصفها الفضاء الأرحب و الأكثر سعة من بين أساليب التعبير الإبداعي الأخرى ظاهرة الإنحراف والتشويه التي تعرض لها مفهوم الهوية و إشكالية وجودها كأحدى أهم مصادر القلق في أزمنة الفوضى والإنحطاط التي مرَّت على العراق و كرستها تراكمات مواسم الطغيان.علي بدر من أهم الروائيين العراقيين، الذين إنتصرت أعمالهم للمرجعية الواقعية لهوية الإنسان العراقي، وركزت على تأكيد إرادة الحياة الحرة وجعل كل ثابت قابلاً للتحوّل. وقد تواتر في أعماله حاملان سرديان مهمان، الأوَّل هو تاريخ التطور الإجتماعي والسياسي في العراق وكيفيات تشكله في بنيات ونظم طبقية إنعكست على الحياة الثقافية العراقية، و ظهر ذلك جليِّاً في رواياته (بابا سارتر، شتاء العائلة، الوليمة العارية). أمَّا الحامل الثاني والذي لا ينفصل في بنيته العميقة عن صيرورة الأوَّل فهو إستبطان الشخصية العراقية، كينونة إجتماعية ذات نوازع ثورية، وتتبع طبائع تعاملها مع حوادث وأزمنة يدخل المتلقي العراقي في عملية إنتاجها لأنه إما أن يكون شاهداً عليها أو جزءاً منها، كما في روايتيه المتميِّزتين (الركض وراء الذئاب، حارس التبغ). عبر هذين الحاملين، فضلاً عن دحض المفاهيم العليا بعد وضعها على المحك، والإشتغال على نقطة تقاطع الإنسان مع ما يفترض أَّنَّه من الثوابت قدَّمَ بدر أهم أعماله الروائية، وكان على وعي بأساليب التوازن بين كيفيِّات القول، التي جعلت شخصياته تسرِّبُ للمتلقي إحساساً بأنَّها تتحرك بناءً على إعتقاد مستبطن بحقيقة كونها موجودة فعلاً، وماهيِّة ذلك المُقال الحريص على الإنطلاق من صورة واضحة لإنعكاس التبدل المستمر في الثقافة والحياة الإجتماعية العراقية. ولم تكن غائبة عن نصوصه مرتكزات وسمات حداثة الجنس الروائي، التي تحوّل مسيرة السرد أحياناً، وبرغم واقعيته البلزاكية، الى صور رمزية تحمل في ثناياها نزعة إحتجاج وسخرية من واقع يضيقُ بتأملات ذلك الموسيقار. وقد أسهم تعالق مكونات السرد النحوية، كالروي بضمير الأنا ودوره في إلغاء المسافة بين الكاتب والراوي ثمَّ التداخل بين زمن الحكاية وزمن الحكي وزمن التلقي، في تخفيف الفواصل بين النص و القارئ، إذ بدى الأخير وكأنه جزءٌ من المشهد وربما نجح في غير مرة في التفكير بعقلية الشخصية المتخيَّلة. على إنَّ هذا لا يحيد بنا عن القول أنَّ الكتابة عن نصوص علي بدر سرعان ما تؤدي الى إشكالية منهجية مردها عين ذلك التمازج بين السارد والمؤلِّف، فهو الروائي محترف التأسيس للمرجعية الجوانية لضمير المتكلم، الذي يبدأ برسم مشاهد شخصياته بواقعية ثمَّ يطعم تلك الواقعية ببسط آيديولوجياته الخاصة وإضافة ما يريد باسلوب يجتاح الشخصيات بأدوات وأستراتيجيات تغلب عليها صيغة التحقيق الصحفي. وهو السارد المتواري وراء الحدث، المتدخل بشكل كثيف في مصائر شخصياته، والمُهيِّء لما يلم بهم، و لتعريتهم وتأسيس بدائل عنهم.تنصرف هذه القراءة للسير على الجادة التي توسَّل بها علي بدر صياغة مفهوم الهوية في روايته (حارس التبغ)، النص الذي عني و ركَّز الغالب الأعم من أحداثه على
مفهوم الهوية بين الواقعي والمتخيَّل..قراءة فـي رواية حارس التبغ
نشر في: 23 مايو, 2010: 05:22 م