ستار كاووش
لا أعرف بالضبط متى تعرفتُ على أفكار وطروحات المعمار والأكاديمي خالد السلطاني، فالأمر يبدو لي بعيداً جداً، حيث تغلغل تأثيره وحضوره وثقافته عميقاً في نفسي مع الوقت، لكن ما أن تَعَرَّفتُ عليه شخصياً، حتى أُضيفَ الى جمال إبداعه، سحر شخصيته الجذابة ولطفه الأستثنائي، وكأن هذا الأستاذ العتيد لا يود مغادرة دوره كمعلم وملهم ودليل يرشدني نحو الجمال، كما فعل مع المئات من طلابه ومريديه.
كنتُ ذات مرة في زيارة لمدينة مالمو في السويد لإلقاء محاضرة عن أعمالي بضيافة مؤسسة ننار، وكنت صحبة الشاعر نصيف الناصري حين جاء خالد السلطاني قادماً من الدنمارك، انتظرته وقتها في محطة تريانغلِن بلونها الأبيض وشكلها البيضوي الذي أعادني لشكل القباب، وغطى سطحها الخارجي مثلثات صغيرة تشي بإسم المحطة، حيث ترجل من القطار بقامته المديدة وكأنه زوربا العراقي لنقضي وقتاً رائعاً، ثم يعود في ذات المساء من جديد الى الدنمارك! وأنا في حيرة من هذا الكرم وهذه اللفتة التي شرفني بها، ومازلتُ حتى كتابة هذه السطور أشعر بالغبطة والامتنان حين أتذكر ذلك اليوم النادر، حيث اكتمل لقاءنا وقتها حين اتَّصَلَ هو بالشاعر المدهش جليل حيدر الذي جاء ليكتمل مشهد الإبداع العراقي.
ترى هل يكفي أن أقول بأن هذا الرجل علمني الكثير، وقد قلتُ له ذلك صادقاً عند لقائنا الأول، رغم أنه لا يود -من شدة تواضعه وبساطة روحه- سماع أي نوع من الإطراء. لكن ألم يفتح لي أساتذة كبار نوافذ الجمال؟ ألم يمسك فان خوخ فانوساً ويضيء لي طريق الرسم؟ ألم يلهمني بيكاسو صناعة الأشكال حين حطّم الشكل التقليدي للوحة وأعاد بناءها من جديد؟ ألم يغير غاودي كل قناعاتي وهزّ روحي بعمارته التي تتلألأ على سطوحها الفسيفساء؟ وهكذا فعلَ خالد السلطاني مثل هؤلاء، حيث علمني ليس فقط النظر الى العمارة وتحسسها والتفكير في ما يقصده المعماريون في ذلك الركن أو تلك الزاوية، بل وضع بين يديَّ خلاصة وروح هذه البنايات التي أراها أمامي كل يوم. وبالطريقة ذاتها أوصل ما تعنيه جماليات العمارة الى الناس من خلال كتاباته الرشيقة والعميقة والمشوقة.
كان خالد السلطاني ومازال، العنصر الأبرز في إحياء عمارتنا المحلية والدفاع عنها من خلال رصده الطويل ومحاولاته التي لا تتوقف في الإشارة الى كل ما يتعلق بها، يمسك بكلتا يديه هذه البنايات المدهشة الأخاذة ويزيل عنها غبار الزمن، ليرينا حقيقتها الجوهرية وجمالها الذي اندثر بسبب الأهمال والإقصاء والعزلة والجهل، يفعل ذلك دون كلل أو ملل وهو يجوب شوارع بغداد ودروبها وكأنه أحد شعراء التروبادور، لكنه بدلاً من إنشاد القصائد كما كانوا يفعلون، انشغل كما لم ينشغل قبله أحد، باحثاً عن عمارة الثلاثينيات التي يعشقها وما تعنيه في أرثنا العمراني والفني والثقافي، ابتداءً بالتفاصيل المحلية وليس انتهاءً بالآرت ديكو، تلك العمارة التي تحولت بغداد بفضلها من ركام مدينة مهملة الى مدينة حديثة.
لا يتوقف خالد السلطاني عند حبه لعمارة بغداد والانتماء إليها بروحة وقلبه، بل يتعدى ذلك نحو عالم العمارة الرحب والواسع في مناطق متباعدة بهذه المعمورة، يرعى جمالها ويمد يده الحانية ليربتَ على ما تبقى من إرثها سواء كانت في بغداد أو سمرقند، في كوبنهاغن أو بخارى، في عمان أو لاهاي... وغيرها الكثير من المدن المختلفة. هكذا يمرر أصابعه أمامنا كل يوم، مشيراً الى معنى العمارة وفائدتها الجمالية والروحية وحتى الخدمية، وأتخيله حتى حين يهم بفتح نافذة بيته صباحاً ليداعب وجهه ضوء كوبنهاغن، فهو يفتح لنا مع نافذته الشخصية تلك، نوافذ عديدة من بلدان مختلفة، ويوصلنا بعربات معرفته الى جهات لا نعرف الوصول اليها دون درايته وحكمة روحه العالية.
المدهش هو رغم ما حققه السلطاني من إنجازات ومكانة فريدة كأكاديمي ومعمار وباحث في الجمال، إلا أنه ظل ينظر الى العمارة نظرة الهاوي المحب، والعاشق الذي تغويه تفاصيل لم يتنبه اليها أحد، يتماهى مع الطابوق حد الغزل، ويتناغم مع تعبير المفردات حد التوافق، يجول بعينيه على الجدران والواجهات، فوق الشرفات والنوافذ، يمضي ببصره مع هذا القوس ويُعجب بذلك العمود الذي استقر في مكانه المناسب، ليبتسم أخيراً ابتسامة رضا أمام هذه الحلول الفريدة التي ربطت الأجزاء مع بعضها، حتى يجد نفسه في النهاية قد توحد تماماً مع العمارة التي خبرها جيداً، وبقدر ما تهمه ماهية البناء الذي أمامه وشكله الخارجي، فهو يتحسس روح هذا البناء ويشم رائحته ويتآلف معه كما يتآلف الرسام مع الموديل الذي يرسمه، ومثلما يتناغم البستاني مع أزهار حديقته الغنّاء. فسواء كان البناء جسراً أم مكتبة، مطاراً أم كنيسة، كلية أم قصراً، جامعاً أم بيت ذوات، ضريحاً أم مدرسة، فالسلطاني يتسرب بين ثنايا هذا البناء كما العطر، فيتسامى معه حتى لا تدرك من منهما حلَّ في جسد الآخر ولا تعرف أي منهما قد غمرَ الآخر بشذاه!
ذكرتُ في البداية، بأني لا أعرف على وجه التحديد متى تعرفت على جمال أفكار وإبداع خالد السلطاني... لكني الآن متأكد من أن هذا الإبداع سيظل يكبر في نفسي، بعدما فتح لي حارس جمال العمارة، أبواباً ونوافذ ستبقى مشرعة الى الأبد.
جميع التعليقات 1
زياد السلطاني
ابدعت واووفبت شكرا لهذا الابداع