حيدر المحسن
"فكم عدد الأحبة (الأدباء) الذين غادرونا بهدوء قديسي بعد أن خلقوا في صدورنا همسات عذبة، وأنفاس مسكية تتضوع في كل فصول الحياة... فأين أحمد آدم وعقيل علي وتركي الحميري وقاسم عبد الأمير عجام ونزار عباس والحصيري وحتى الجواهري على كبر سنه؟".
هذا جزء من مقال كتبه محمد سمارة قبل شهور من رحيله، وأرجو الانتباه إلى (حتى) التي سبقت اسم الشاعر الجواهري. تمتد جذور سمارة القادم من مدينة حيفا وهو طفل مع عدد السنين التي تجعل (حتى) تسافر وتبتعد في تاريخ العرق الحديث، وتشرح لنا بطريقة مختصرة انتماء الرجل الفلسطيني المولد إلى بلده العراق. "أما ذاكرة القلب فلا تتهشم، وحدها الصامدة في وجه الزمن ماسكة صوت الأحبة وصورهم وهم يرحلون، ملوحين بأيد بيض صادقة".
((مشهد أول))
القاصّ والصحفي والمعلم المتقاعد محمد سمارة يقود عربة يبيع فيها الطعام في شارع الكفاح في تسعينيات القرن الماضي.
((مشهد ثانٍ))
في جلسة مع أصدقائه في المقهى يُسأل سمارة عن قصصه الجديدة، ويخبرهم أنه مضى عليه أكثر من سنة لم يكتب حرفاً واحداً.
كان نشر الأدب في العراق في الماضي القريب يتمّ عن طريق المقايضة: الحرف مقابل الدينار والدرهم، ويضيع الضمير بالطبع في أثناء ذلك، وعندما توقفت مفوضية اللاجئين عن دفع بدل إيجار شقة الكاتب في السنين الأخيرة، بعث سمارة إليهم رسالة قال فيها: "أحيانا أحمّل نفسي المسؤولية لأني عشت طيلة حياتي بوجه واحد، ولم يكن لي وجوه متعددة"، هذا الكلام عندما يقوله الرجل العاجز -أصيب سمارة بجلطة دماغية- فإنه يبدو أشبه بزفرة سوداء واحدة، كزئير انسان أكله دفعة واحدة يأس خرافي من أن ينصفه أحد من المسؤولين في البلد.
ألّف سمارة أربع عشرة مجموعة قصصية أولها عام 1979 "الأشجار تورق في الصحراء"، والأخيرة "الغيمة الضاحكة" 2013، ويعتبر كتابه الصادر في 2002 "خمسون قصة قصيرة جداً" الأهمّ في رحلته بين الشعر، والمقالة، والقصة. يعود السبق في كتابة هذا اللون من الأدب إلى خالد حبيب الراوي، وكانت أقاصيص سمارة الخمسين مكتوبة بقلم يفرّق كثيرا بين الصناعة والموهبة، بين الكدّ والإبداع. في قصة "المرأة واللص" تكتشف امرأة وجود سارق في بيتها، وترى وجهه بوضوح: "فأدهشتها وسامته المفرطة". ثم تتركه ينجز مهمته، وكانت "تتأمله، وخامرها إحساس بالهدوء، وتمنت لو يعرف أنها هنا". اللص يسرق أثمن ما لدى المرأة، وهو قلبها، تقدّمه له وهي ممتنة. في القصة القصيرة جدا يستطيع الكاتب قول الكثير بكلمات قليلة جدا، مثلما تعمل الذاكرة عندما تحتفظ من الرواية بصور ومشاهد معدودة، وتنسى البقية. بمعنى أن القصة القصيرة جدا هي رواية حُذِف منها ما هو غير مهم، وهذا العمل يحتاج إلى براعة عالية، أن تُكتب رواية بصفحة واحدة أو صفحتين.
دعونا نقارن قصة "دائرة الضوء" لمحمد سمارة مع رواية "حياة" للإيطالي إيتالو سفيفو. في القصة تودّع الأم ابنها في محطة القطار، وتقول له: اكتب لنا كثيراً، إننا نعلق رسائلك في صدر الغرفة يا فؤاد. ثم تدفع له سلة ملأى بالطعام، وحين تلتفت إلى الجندي الجالس عند النافذة المجاورة، تهتف: يا إلهي...إنك تشبه ابني تماماً، لو لم أر ولدي الساعة لقلت إنك هو، ثم مدت يدها إليه بعلبة حلوى: خذ...إنك فؤاد أيضاً. . تدور أحداث رواية سفيفو في الحرب العالمية الأولى؛ لم تعثر إحدى الأمهات على جثة ابنها، وطلبت منها الحكومة الإيطالية اختيار جثمان من بين أحد عشر تابوتا لجنود إيطاليين مجهولي الهوية. انهارت الأم عند الجثمان العاشر، لأنها شعرت أنه ابنها، وبعد وفاة الأم، جعلوا قبرها يتوسط قبور الجنود البقية.
القصة القصيرة جداً رواية مختزلة، ومكتفية بسطورها القليلة، ووافية في نفس الوقت، كانت خطوة سمارة فيها واسعة للغاية، وعالية.