لطفية الدليمي
جاءت معرفتي الأولى باللورد (سي. بي. سنو) أوائل تسعينيات القرن الماضي بعد أن نشرت دار المأمون ( التي دُفِنت وصارت نسياً منسياً مع الأسف) ترجمة عراقية لروايته الكبيرة (الأسياد The Masters) – تلك الرواية التي حبّبت لي أعمال سنو وجعلتني أتابعها بشغف ، وكان من بعض حصيلة هذا الشغف أن أقدمتُ قبل أربع سنوات على ترجمة عمله ذائع الصيت (الثقافتان) الذي صدر عن دار المدى .
يحكي سنو في روايته (الأسياد) عن حقيقة إختبرها هو وعاش حيثياتها بنفسه : عميدُ إحدى كليات جامعة كامبردج يحتضرُ بعد بلوغ السرطان في جسده مبلغاً قاتلاً ، وحينها يبدأ أساتذة في هذه الكلية (إثنان منهم على وجه التخصيص) بالانغماس في لعبة تهدف ليحظيا بكرسي العمادة ، أجاد سنو وبرع كثيراً في رسم صورة السلوك المخاتل والباطني لهذين الأستاذين ؛ إذ يعمدُ كل منهما لزيارة العميد المحتضر وإبداء علائم الأسف على قرب مغادرته للحياة ، وعندما يحضران إجتماعات مجلس الكلية يُبدي كل منهما تعففاً وتسامياً على قبول كرسي العمادة ؛ لكنّ الامر وراء الكواليس المغلقة كان مختلفا تماماً ؛ فهو مشبعُ بعفونة المؤامرات وتوظيف كل الوسائل لحرق الآخر في الوقت الذي يُبدي فيه الاثنان علامات المسالمة والتعالي على المناصب إمتثالاً لأرقى المواصفات الأكاديمية النبيلة التي نظنُّ فيها أعلى معايير الصدق والنزاهة والأخلاقيات الرفيعة والتعفف عن الصغائر . كان هدف سنو من هذه الرواية بسيطاً وواضحاً : إياك أن تفترض معايير أخلاقية قياسية مسبقة في أيّ قطاع مجتمعي أو أكاديمي أو حكومي حتى لو كان بمستوى جامعة كامبردج ، والأمر يصحُّ مع الأفراد أيضاً . المعايير الأخلاقية والسلوكية الرفيعة صناعة شخصية ولاتتأتّى من توصيف أكاديمي أو وظيفة حكومية .
يمكنُ - من غير إخلال كبير - تعميم نموذج أسياد كامبردج في رواية سنو على قطاع واسع من القارة الفيسبوكية ، ألمحُ أحياناً تعليقات أو إشارات تكادُ تنطقُ بما في صدور كاتبيها الذين يتدثّرون بمعطف الهدوء والمسالمة والطيبة ؛ لكنهم يضمرون خفايا نقيضة للصورة المعروفة عنهم لدى عامة الناس . تكتبُ منشوراً تشارك فيه البعض فرحهم فيأتيك تعليقٌ مخاتلٌ يحاول إطفاء فرحك باختراع مسألة صغيرة فرعية يعمد خالقها لتغليفها بأرديةٍ من إدعاء الموضوعية والرأي المنصف ؛ لكنه كاذب مخاتل يُبطِنُ غير مايبوح به ، وماهذا السلوك سوى تجسيد حقيقي لتلك الأمثولة الشعبية القائلة بأنه (يخوط بصف الإستكان أو يثرد يمّ الماعون) . ولن يهدأ له أو لها بال حتى ينغص فرح الآخرين .
نشأنا في بلداننا العربية كائنات باطنية لأسباب كثيرة (سياسية ومجتمعية ) . لم ننشأ على التصريح بما يعتملُ في صدرونا خوفاً أو طمعاً أو تزلفاً أو جرياً محموماً وراء طيبات (مادية ومعنوية) ، وقد تعاظمت هذه الباطنية عند العراقيين بخاصة واتخذت أشكالاً مؤذية وخطيرة كانت بين أهم الاسباب التي أطاحت بالعراق وأودت به لهذا الحضيض الذي وصل إليه.
كل باطني هو مخاتلٌ بالضرورة ، الباطنية والمخاتلة توأمان لاينفصلان . عندما لايملك أحدهم شجاعة التصريح بما يجول في صدره فسيلجأ حتماً لألاعيب المناورة والمخاتلة والمسالك الإلتفافية ، وغالباً مايحصلُ في غمرة هذه الألاعيب أن يتصاغر المرء وتتهشم صورة الكائن المسالم الهادئ التي تمترس وراءها طويلاً .
الفيسبوك عالمٌ جميل أقام لنا صلاتٍ رائعة بأشخاص رائعين ؛ لكنه في الوقت ذاته كشّافٌ خطير عن بعض السلوكيات البشرية المؤذية لأناسٍ يستمرئون الباطنية والمخاتلة ويجعلونها دليل هداية لهم في الحياة .