علي حسين
كلهم، من دون استثناء، ينظرون إلى الثقافة، باعتبارها كماليات زائدة لا يحتاجها المواطن العراقي في زمن القادة "المؤمنين". أنت مواطن مثقف ما دمت تذهب إلى صناديق الاقتراع تنتخب جماعتك، وتمنحهم صوتك، وأنت مغمض العينين. فالدولة تنظر إلى المثقف باعتباره كائناً غريباً،
لا يحق له أن يطالب بتوفير كتاب رخيص الثمن، ومشاهدة مسرحية راقية، ومتابعة ما تجود به الفرقة السيمفونية. فمهمة الدولة في بلاد الرافدين تعبيد طرق الآخرة أمام الناس، ألم يصرخ أحد النواب في زمن "المفكر" إبراهيم الجعفري "ياجماعة حرام تخصصون أموال لوزارة تدعم الراقصات".. كانت هذه هي المسخرة التي عشنا فيها منذ أن قررت الدولة منح وزارة الثقافة لضابط شرطة، ومن بعده لقاتل، ثم تسلمها لسعدون الدليمي الذي حول اموال الثقافة إلى وزارة الدفاع تحت شعار "كل شيء في سبيل المعركة" وكانت معركته الحقيقية هي وضع حجر الأساس لدار أوبرا وهمية، وصرف مئات الملايين على نشاطات لا تمت للثقافة بصلة، واختصار فعاليات بغداد عاصمة الثقافة بحفل لمطربة درجة عاشرة اسمها "مادلين مطر "ونهب أكثر من 400 مليون دولار ، في الوقت الذي عجزت فيه عن إعمار مسرح الرشيد الذي وقف على خشبته نجوم المسرح العراقي.. بالأمس وأنا أتجول في شارع المتنبي التقيت الصديق عارف الساعدي مدير عام دائرة الشؤون الثقافية، وتحدثنا عن هذه الدار العريقة التي أصدرت مئات الكتب، وكانت في السبعينيات والثمانينيات أشهر دور النشر العربية، تتسابق البلدان للحصول على مطبوعاتها، فإذا بها اليوم تعجز عن طبع كتاب والسبب باختصار، كما قال الصديق الساعدي، إن الحكومة قررت أن تحول هذه الدار العريقة إلى نظام التمويل الذاتي، وأن لا تخصص لها "درهماً" واحداً في الموازنة، مثلما تخصص لنثريات المسؤولين وأثاثهم الفاخر ومخصصاتهم المليونية.. تخيل جنابك أن دولة نفطية مثل العراق تعجز عن توفير مليون دولار سنوياً لدعم صناعة الكتاب في العراق، لكنها تهدر مليارات الدولارات في مشاريع وهمية، وتقرر في لحظة تجلٍ أن تمنح الجيش اللبناني ملايين الدولارات لمساعدته في أزمته المالية، قبل أشهر كنت قد قرأت هذا الخبر المثير والذي يقول إن "الحكومة البريطانية، خصصت مبلغ "2" مليار دولار لمساعدة قطاع الثقافة في البلاد على مواجهة تداعيات جائحة كوفيد-19"، تخيل جنابك أن دولة لا تملك موارد مثل العراق تطبع كل عام آلاف العناوين و تقدمها للقراء بأسعار زهيدة.. وأعني بها مصر التي يصر مسؤولوها على أن تبقى منارة للثقافة ولصناعة الكتاب، في الوقت الذي تمد وزارة الثقافة العراقية يدها لجهات مانحة كي تساعدها على طبع ديوان الجواهري.. أيها السادة استقطعوا مليون دولار من مخصصات "الشاي والقهوة" في مكاتب الرئاسات وامنحوا هذا المبلغ لدار الشؤون الثقافية، من أجل أن تعود العافية للكتاب العراقي.