ستار كاووش
لا أعرف إن كانت (موهبتي) في الرسم كبيرة أم لا، وهذا الأمر لا يشغلني كثيراً، لعدم ثقتي غالباً بما يُقال حول حجم الموهبة، فأنا أحتار أساساً أمام هذه الكلمة، لأن كل البشر تقريباً يولدون وهم يحملون أنواعًا مختلفة من المواهب، لذلك أرى -قبل أن نهلل لمواهبنا- أن نبحث عن طريقة للعناية بهذه البذور الصغيرة التي بداخلنا كي تنمو وتصبح بستاناً مدهشاً من الورد.
ربما يعود شَكّي بكلمة موهبة الى أن لوحاتي لا أرسمها دفعة واحدة، بل أحاول وأجتهد كثيراً في رسمها، وأغير التفاصيل مراراً كي أصل الى النتيجة المناسبة، حتى أني لا أتذكر أن هناك لوحة كنت قد رسمتها في جلسة واحدة، وفي كل مرة أعود الى لوحتي التي ظننتُ أنها اكتملت، فأرى النتائج غير مرضية. من هنا يمكنني القول بأن الأمر غير مهم سواء كانت الموهبة فريدة أم لا، والأهم من ذلك هو المضي بتطلع وإصرار للتوصل الى نتائج باهرة في الرسم، فأنا لا أكف -على سبيل المثال- عن إعادة رسم الوجه عشر مرات تقريباً كي أصل الى التماعة العين وحساسية الشرود أو حتى انسجام استدارة الرأس مع الخلفية، حركة الأصابع، انسيابية خصلات الشعر واستقرار هيئة الجسم وانحناءات خطوطه وما أريده من تعبير، لذا ليست هناك نتيجة سهلة وواضحة المعالم بالنسبة لي، ويبقى الرسم عبارة عن صراع مع الأشكال والخطوط وتأثير مساحات اللون ومعالجات السطوح، العلاقة بين المساحات تشغلني كثيراً أيضاً لذا عليَّ أن أختار الإيقاع المناسب الذي يمسك بهذه المساحات بِرِقَّة ويلقي بظلاله عليها مثل شبكة عنكبوت.
ساعات طويلة أقضيها في المرسم، أهادن الأشكال والخطوط محاولاً الانسجام معها وإيجاد التوليفات والنسيج الملائم للشخصيات التي أرسمها، وغالباً ما أقوم بتصوير اللوحة وهي غير مكتمله، أي في منتصف الطريق، واسترخي على الأريكة بعد العشاء وأنا أتأمل صورة اللوحة غير المكتملة، وأفكر بالحلول الممكنة، بالاحتمالات المتاحة والفرص المتوفرة لنجاح المهمة في النهاية. لا شيء مؤكد أثناء الرسم، ولا يوجد شيء حتمي ونهائي، وفي كل مرة تظهر لي احتمالات عديدة يمكنني توجيه اللوحة على ضوئها، لكني أختار في النهاية احتمالاً واحداً، أستقر على صيغة نهائية وأتمسك بها لأنها الأقرب الى حساسية عيني في تلك اللحظة، يضاف الى أنها تثير لديَّ نوعاً من الفضول وشيئاً من العاطفة. لذا يمكنني القول، لا توجد لوحة مكتملة ابداً وكل اللوحات كان يمكن العمل عليها وتغيير شكلها النهائي الذي عُرِفَتْ به.
يبقى الرسم هو الحل الأمثل لحياتي، فليس هناك سوى الرسم ومجموعة من الأشخاص الذين أحبهم ... هذا هو الواقع وهذه هي الحقيقة، وبالنسبة للأشخاص الذين أحبهم، فهم سيمضون بعيداً في النهاية... وأنا أيضاً سأمضي مثلهم، لتبقَ اللوحات خالدة إن كانت تعني شيئاً، اللوحات الجميلة هو ما أقصده هنا، اللوحات التي تتمسك بجانب معين حياتي وتكون جزءاً منها، فالحياة أيضاً عبارة عن لوحة كبيرة وواسعة، لوحة تتسع لمشاعر وعواطف كثيرة جداً.
لا يمكني اكتشاف فرديتي العالية في الرسم ولا التوصل الى تقنياتي وأسلوبي ومعالجاتي الشخصية سوى من خلال العمل المضني الجاد، والمحاولات التي لا تتوقف. فلا أظن أن هناك رساماً حقيقياً واحداً يرسم ساعتين أو ثلاث ساعات فقط في الأسبوع، كما يفعل هواة الرسم أيام العطل، لذا فالفنان الحقيقي يعيش داخل أعماله وينتمي إليها، أنه يشبهها بشكل أكيد، وحتى الأشياء التي يحبها خارج الرسم تؤثر على لوحاته بشكل أو آخر، وبذلك يشكل الرسم في النهاية، الساحة المستديرة التي تتفرع منها خطوات حياة الفنان ومساراته الباقية.
وبالعودة الى موضوع الموهبة، فالأجدى أن تكون موهبتك متوسطة وتجاهد معها للتوصل الى نتائج عظيمة، خير من أن تكون موهبتك عالية وتحبسها في قفص الكسل واللامبالاة. وفي كل الأحوال هناك فنانون يمتلكون مواهب عظيمة طوروها بشكل أخاذ ومذهل، يقابلهم فنانون لم يعرفوا كيف يديرون مواهبهم الكبيرة، فضاعت فرص تقدمهم وإنجاز شيء عالي الجمال والقيمة والتأثير. فأنا أرى أن الموهبة مثل قطعة قماش جميلة، يمكنك أن تصنع منها بدلة رائعة، ربطة عنق جميلة أو حتى منديلاً تلوح به لمن تحب، أو تسيء استعمالها فتصنع منها كفناً لدفن مسيرتك الفنية.
جميع التعليقات 1
فتحية شرف الدين (توحه)
شكرا على مقالكم الجميل و اسلوبكم الرائع ومعلوماتكم المنيرة .. انتم الفن و كل الفن