TOP

جريدة المدى > عام > كنت بعثيّاً..منطلقات كتابات السيرة ومآل النتائج (2)

كنت بعثيّاً..منطلقات كتابات السيرة ومآل النتائج (2)

نشر في: 24 مايو, 2021: 10:56 م

جمال العتّابي

يبدو الشيخ راضي متجاذباً بين حركتين في مذكراته، حركة الذهاب الى الماضي، وحركة الأياب الى الحاضر، إنه، بتعبير آخر متجاذب بين ذاكرة ماضيه، ومخيلة مستقبله،

والحاضر يقف بينهما كنقطة توازن، وهو يحمل همومه، وسائل عبر ماضيه، في تصور معلن وصريح، أو مايزال مكتوماً، متفائلاً أحياناً، أو حذراً ويائساً في أحيان كثيرة.

قد لا تتسع القراءة لما هو مطلوب منها على ما أفترض، أن تتوسع في محاور عديدة ومهمة تناولها كاتب السيرة، لكنني سأتوقف عند بعض المحطات والمنعطفات التاريخية التي ما تزال موضع جدل وخلاف، لكن المهم في المذكرات، كونها ضرورة نحتاجها راهناً، إنها تعزز حاجتنا لثقافة الاعتراف، والإعتذار بأسس سليمة وبنّاءة ومنظمة، والاعتراف هنا لا يتعلق بالفعل السياسي الخطأ إنما يتجاوزه نحو كيفية تدريب الآخر على تعلم هذه الثقافة وتعميمها، إنه بتقديري إمتحان ثقافي، تكون فيه الذاكرة قادرة على الإقناع، دونما خلق لأوهام جديدة، إذ يعتقد البعض للأسف الشديد، أن الإعتذار نقطة ضعف، كونها دليل إنكسار وهزيمة، بينما يعدّ الاعتراف بالخطأ أو تصحيحه والتراجع عنه، موقفاً شجاعاً متسامياً، يحتاجه المرء كفرد، وكذلك الجماعات السياسية، وأعني بها صاحبة القرار.

إن المراجعة تقتضي أيضاً، تجنب الماضي كمعيار أو مقياس مقدّس، لخلق أوهام جديدة، هي في الحقيقة محاولة لتعويض مواجهة الأخطاء وتحري أسباب الفشل والإخفاق لدى القوى السياسية جميعاً.

إن الرؤية العلمية والعقلية تدرك أن الأحداث أياً كانت، هي نتاج تفاعل أسباب عديدة، وبالتالي فانها تفترص بما في ذلك ميدان العلاقات السياسية، ضرورة التنوّر بالسببية من أجل رؤية نتائجها المحتملة.

لقد أدرك محسن الشيخ راضي هذه الحقيقة، وعبّر عنها بالقول : من الإنصاف أن يكون الانسان أكثر صلابة بنقد ذاته، وفي نقد ما حدث في عام 1963،وأن يكون أكثر صلابة بإدانة الكثير من الممارسات اللاإنسانية التي إقترفتها بعض العناصر البعثية المشبّعة بروح الثأر والإنتقام غير المبرر، والحق إنني أشعر أن الكلمات مهما بلغت من قوة في التعبير لاتكفي لبيان رفضي لما قام بعض البعثيين من سلوك مدّمر وكارثي تحملنا وزره ونتائجه جميعاً، نحن المشاركين في تلك الفترة المقيتة، لقد حقد علينا الشعب العراقي، كأفراد، وكحزب، وحقدت علينا القوى السياسي الأخرى، بما يوازي حقدنا عليهم، وربما أكثر، وبكل ثقة وقناعة أقول بأني أدين بقوة كل السلوكيات الوحشية التي لازمت أحداث 63، واستنكر بشدّة العنف الذي رافقها والدماء التي سالت، وأريقت تحت عنوانات واهية لاقيمة لها إزاء حياة الإنسان وكرامته(ص181) .

بتقديري إن النص أعلاه، ولنقل الدرس، ينبغي أن تتقنه القوى السياسية من تجربة العراق المريرة، بمعنى التأسيس لخطاب عقلاني يهدف الى وضع أسس للمراجعة ونقد الذات، والتجربة بكل جوانبها ومكوناتها، وملابستها وإخفاقاتها، وممارسة النقد لايعني عبارات خطابية لا تصنع يقيناً، إذ يفترض من وجهة نظر التاريخ التمسك بحدود الحقيقة، وبموعظة تجارب التاريخ، كل ذلك يجعل من مهمة التدقيق في مراجعة الذات من أخطر المهمات وأكثرها أهمية.

ولأننا أمام سرد للسيرة مثيرللجدل، لقائد سياسي ماتزال ذاكرته يقظة، من خلالها نتبين الأحداث، ونتأملها من جديد وبهدوء، دون إنفعال، فالشيخ راضي يقف بالضد من محاولات (التشويه)، التي تعرّض لها رفيقه علي صالح السعدي، والقيادات البعثية كما يصفها الشيخ بالنزيهة والبريئة من التهم التي ألصقت بهم، ويشير بذلك الى شخصه، الى جانب هاني الفكيكي، وابو طالب الهاشمي، وحمدي عبد المجيد، ويؤكد كاتب السيرة بثقة وإصرار أن السعدي أدان أعمال العنف، ولم يمارسه على الإطلاق ضد الشيوعيين، وكل ما يشاع عنه من قسوة وعنف، غير صحيح، ويبرر للسعدي عدم تمكنه من مواجهة العنف وإيقافه، إذ كان أضعف من السيطرة عليه، على الرغم من أنه يحمله المسؤولية بوصفه قيادياً في السلطة والحزب، وبكل أمانة يقول إنه كان بريئاً من كل عنف، ولم تتطلخ يداه بدماء الشيوعيين، ويذكر راضي في (ص203) : شهادتي للتاريخ، أقول، لا أريد أن أدين الحزب وقيادته، فحسب، بوصفها تتحمل مسؤولية الجرائم المرتكبة بحق الشيوعيين، وغير الشيوعيين، وما أدين نفساً لأني كنت جزءاً من من قيادة الحزب والنظام، ولم أستطع وقف حمامات الدم، ولم نكن قادرين على كبح جماح الثأر والإنتقام التي مارسها المتحزبون في البعث والجناح العسكري المسيطر على الأجهزة الأمنية ولجان التحقيق.

ويضيف بهذا الصدد: كنا جميعاً في الحركة الوطنية في العراق نتقاتل بالنيابة من حيث لا ندري، غارقين في أتون صراع المعسكرين الإشتراكي والرأسمالي، تحول الى صراع دموي بين الشيوعيين والبعثيين، لذا يدعو الى التحري بإنصاف مواقف البعض من قادة البعث خلال تلك المدّة، والتنبيه إلى أن النظر للتاريخ بعين واحدة رمداء سيفسد الإنصاف الإنساني، وسيطمس الكثير من الحقائق التاريخية(ص 161) .

لعل مفاتيح فهم أحداث تلك المدة عند الشيخ راضي، تقدمها تلك السياقات والأفكار والمواقف، إذ يشدد على عدم آهلية البعث لإدارة الدولة: نحن الشباب الغض لاخبرة لنا، ولا ممارسة في أصغر منصب إداري يؤهلنا، وهنا تكمن إحدى المشاكل التي واجهتنا، لكن بعد هذه العقود الطويلة التي مضت على تجربة8 شباط، اثبتت أن النوايا الحسنة التي كانت تخامر وجداننا، لم تكن وحدها كافية لتحقيق العدالة في ظل أوضاع سياسية مضطربة.

تحت وطأة الماضي، يحاول محسن الشيخ راضي أن يكثف موقفه عن زمن عصي، كان بحاجة إلى مقاييس مرنة، وإدارات سياسية عقلانية، تحسن الرؤية وتدرك مهمات الحاضر والمستقبل، تتعدى الاجتهادات النظرية، وتفكر بنمط وطني يعبر عن مستوى إدراكها لطبيعة الأحداث وآفاقها على مستويات عدّة، لكن للأسف الشديد، ظلت عقدة تطهير الخطاب السياسي من لغة العنف والدماء ملازمة لإنتاج القسوة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram