حيدر المحسن
في سني شبابي المنغمسة في الفسق
كانت تتشكّل مقاصد شِعري ،
ويتصمّم إقليم فنّي
وهو يُلقي محاضرات عن شعر كافافيس يتساءل لورنس داريل كيف يمكن لقصائد جُمعت من مواخير ومقاهي الإسكندرية الفقيرة أن تكون محطّ اهتمام حلقة وقورة من سيدات القوم كنّ قد تركن في سبيل المجيء إلى المحاضرة حفلة للعبة البريدج، وفي الختام يغادرن المكان "إلى الشوارع المبتلة حيث كانت سياراتهن المضاءة في انتظارهن، وقد تركن المكان يسبح في شذى عطورهنّ الثمينة".
كتب كافافيس قصائده الإيروسية عندما بلغ الخمسين، ولم يكن بمقدوره أن يظلّ ثابت الجنان وهو يحسّ بالشيخوخة تهدّد مشاعره، والعقار الوحيد للشفاء من "جرح سببته سكين كريهة" هو الشرود والعيش على تذكر الماضي بكل لذاذاته، مع حرية كبيرة تتم فيها مباهاة عاطفية جليّة لا يكتفي الشاعر بالإعلان عنها رغم ما ينطوي عليه الأمر من خطورة نظراً لعادات الناس في الأسكندرية المتحفظة في تلك السنين:
"إن بهجة حياتي وجوهرها | هو ذكرى الساعات | عندما كنت أجد وأدعم بهجتي الحسيّة كما رغبتها".
هذا الشعور بالفقدان دعاه أن يشتطّ بخيال الشعر إلى درجة تمكّنه من وصف كل عاطفة شهوانية يتم استحضارها بواسطة ذهن متفرّغ لها دون اهتمام يُذكر بأيّ شيء آخر في الوجود، كما أن الذهن يُشحذ من خلال تفاصيل صغيرة لا علاقة لها بالفعل الإيروتيكي؛ النافذة، أثر الظلّ وأثر الشمس على السرير، والحرّ الخانق، يبني الشاعر من هذه التفاصيل شعراً فاضحاً ومستوراً في نفس الوقت:
في غرفة صغيرة جرداء، بين أربعة حوائط
مغطاة بكسوة خضراء، جدا خضراء،
ثريا جميلة تتأجج بالأضواء
كلّ شعاع من لهيبها، يتدفق متقداً برغبة واشتهاء
الفسق الشرقيّ الواهي نراه تحول إلى نوع من الصوفية الجسديّة، إذا صحّ التعبير، يظهر فيها الشاعر مثل ناسك معتزل ضد النظام الاجتماعي:
"لن أخاف من شهواتي كالجبان | سأكرّس جسدي للمتع الحسّية | وفي اللحظات الحرجة، لسوف أعيد اكتشاف | روحي، مثلما كانت زاهدة"
تبدو قصائد كافافيس الإيروسية كأنها تقارير وصفية، غير أننا بالتالي لابد أن نحس بها بصورة تعلّات جسدية قام بها الشاعر منذ زمن بعيد، وهو يعيد الآن إليها الحياة بواسطة الشعر. هذه التقارير السردية التي تشبه ال(بالاد) هي كلّ شريعة الشاعر في الوجود، كما أنها تشكّل المساحة الأهمّ في إقليمه الفني الذي قام بتشييده، حسب تعبيره.
قصيدة "في المكان نفسه" ليست إيروتيكية في الظاهر، لكن الحبّ الذي يحمله الشاعر فيها إلى مدينة الإسكندرية يشبه ما كان يتعاطاه في لذاذاته الجسدية:
"محيط البيت، وساحات المدينة، وأحياء المدينة | التي لا أبالي بها، والتي أسير فيها، سنين وسنين | لقد خلقتُك في خضمّ الفرح، وفي خضمّ الحزن | عبر حالات عديدة، وأشياء جديدة | وما عدتِ، بالنسبة لي، سوى عالم من صنع أحاسيسي ومشاعري".
ليس ثمة شعور بالعزلة أو الإحباط طالما كان المرء منسجماً إلى الحدّ الذي يكون بمقدوره إعادة خلق الحيّ الذي يسكنه، والمدينة التي تضمّه. هو ترياق الشعر وقد فعل فعله، وهي بطولة الفرد الهادئة التي تستطيع التغلّب على الصعوبات لا عن طريق الإفراط في الخيال بواسطة المهدئات والمسكّنات، ولكن بواسطة رؤية الواقع نفسه بعد تحويله إلى إقليم للفن، حيث تتم إعادة تشكيل للمادة الواقعية بصورة عاطفية تقترب من حالة اللذة الجسدية، والأمر يُنجز كله كما لو بفعل السحر، الشاعر وحده يتطلّع نحو تتمته، نحو جزائه: فهنالك فقط تكمن راحته.
طالما أن الشاعر لا يستطيع الهروب من هذا العالم، فعليه أن يرتبه وفق رؤاه. يقول داريل عن كافافي: يحس المرء وهو معه بأنه يمسك بكل دقيقة تمر عابرة ليقلبها رأساً على عقب حتى يكشف جانبها السعيد.