TOP

جريدة المدى > عام > العلمُ والأخلاقيات والحدود اللانهائية : ملائكةُ بروميثيوس في مواجهة شياطين فاوست

العلمُ والأخلاقيات والحدود اللانهائية : ملائكةُ بروميثيوس في مواجهة شياطين فاوست

نشر في: 25 مايو, 2021: 10:31 م

لطفية الدليمي

لماذا ( الحدود اللانهائية ) في عنوان هذه المادة ؟ إنّ واقع الحال وخبرتنا البشرية المكتنزة تدلّنا أنّ الحدود الممكنة لكلّ من المنجز العلمي والقدرة الأخلاقياتية Ethical هي حدود لانهائية ؛

إذ ماإن يتحقق هدف علمي أو تقني حتى تنفتح الآفاق أمام أهداف أخرى أبعد مدى ، والحال ذاته يمكن أن يحصل مع الارتقاء الفردي والجمعي على الصعيد الأخلاقياتي على الرغم من كل مظاهر النكوص السائدة .

 

القسم الأوّل

ثمة سبب أخر (فنيّ بعض الشيء) دفعني لتسمية مادتي هذه بِـ (الحدود اللانهائية) : في أعقاب الحرب العالمية الثانية وضع البروفسور (فانيفار بوش Vannevar Bush) – الذي شغل مواقع عليا مرموقة على المستويين الإداري والأكاديمي في دوائر صنع السياسات الأميركية – تقريراً قدّمه إلى الرئيس هاري ترومان، وقد جاء التقرير بعنوان (العلم : الحدود اللانهائية)، وهو أقرب مايكون لبرنامج عمل دقيق وتفصيلي بما ينبغي أن تفعله الإدارة الأميركية لتنشيط دوائر البحث العلمي والتقني في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تحضر أمامي في الوقت ذاته صورة الفيزيائي اللامع (روبرت أوبنهايمر) الذي قاد مشروع مانهاتن لصنع القنبلة الذرية وهو يشهد أول تفجير ذري في تموز 1945، وحينها إستذكر أبياتاً من كتاب الباغافاد غيتا (الكتاب المقدّس للهندوس) تقول : الآن أصبحتُ الموت، مدمّر العوالم !. هذه هي الحقيقة إذن في صيغة ثنائيات مشتركة : تطور لانهائي في مقابل موت شامل، وقدرة فائقة على الإرتقاء بالحياة في مقابل قدرة فائقة مقابلة على الإماتة والقتل والتدمير، هل باتت حياتنا رهناً بمقامرة فاوستية لامجال فيها لربح خالص إلا في مقابل خسارة فادحة ؟ هل استحالت مسيرة العلم المبشّرة بملحمة بشرية بروميثيوسية كابوساً ديستوبياً مؤرقاً ؟

الأخلاق والأخلاقيات : تأصيل المفهوم

ترد مفردة (الأخلاق Morals) عند تناول المفاعيل الإيجابية والسلبية للثورة العلمية والتقنية، والمقصود في الغالب (الأخلاقيات Ethics ). الأخلاق منظومة من القيم التي نحسبها مطلقة وشاملة وتمتلك ميّزة المقبولية العولمية فضلاً عن ارتباطها بجذور دينية أو ميثولوجية بشكل ما (مثل : الصدق، التعاطف مع الآخرين، الكياسة، الرفق بالكائنات الحية وغيرها،،،، إلخ) ؛ أما الأخلاقيات فهي أقربُ إلى أعراف سلوكية في حقل مهني ما (الأخلاقيات الطبية، أخلاقيات البحث العلمي،،،، إلخ)، يمتلك العلم والتقنية قدرة إجرائية فائقة في التأثير على الأخلاقيات السائدة في عصر ما وتعديلها بأكثر ممّا يمكن أن يفعل مع المنظومة الأخلاقية على الرغم من أنّ الارتقاء بالعلم يحمل معه قدرة متعاظمة على تحسين نوعية الأخلاق الجمعية، وربما يعود السبب في ذلك إلى أنّ العلم وممكناته التقنية يوفر للإنسان كلّ مايسعى إليه من وسائل وظروف معيشية تجعله يغادر منطقة الحاجات البيولوجية الأولية ويرتقي إلى عوالم فكرية أرفع تحرّره من ضغط الحاجة البدائية وتطلق مكامن قدراته المعرفية المختزنة من جانب ومعزّزات رفعته الأخلاقية من جانب آخر.

تبدو الأخلاقيات في العادة أكثر صلة بتفاصيل الحياة اليومية للناس، وأكثر قرباً لمعاملاتهم اليومية ؛ وعلى هذا الأساس فهي أقرب إلى نوع من المحدّدات السلوكية غير المدوّنة في نصوص قانونية، وهي على الرغم من ذلك تملك سطوة القانون وينصاع لها الجميع عن قناعة ، ولو دققنا في التفاصيل الحاكمة لسلوكيات الأفراد في البلدان المتطوّرة لرأينا الأغلبية العظمى منها مُنقادة لموجبات الأخلاقيات السائدة قبل موجبات القوانين والدستور، أما القوانين فهي صنيعة الدولة وجزء من عملها المرسوم ضمن الشقّ التشريعي في مثلث السلطات المنوطة بالدولة الحديثة (التشريعية، التنفيذية، القضائية) ؛ في حين أن الدساتير المكتوبة هي القوانين الكبرى التي لاينبغي أن تخالفها كل القوانين السائدة.

أريد القول بوضوح إنّ الأعراف (الأخلاقيات) الجيّدة والبعيدة عن الأعراف القبلية السائدة في مجتمعات ماقبل الدولة الحديثة هي التي يُعوّل عليها في ترسيخ الأخلاقيات التي تنهض بنوعية حياة الأفراد، والأعراف قبل ذلك لها الأسبقية على كلّ من القوانين والدساتير لأنها تفرض نوعاً من القيود المطلوبة على فعل السوء والإيذاء تجاه الآخرين، وبالإضافة لذلك فهي تمثّل نوعاً من السلوك اللحظوي الواجب إتخاذه قبل الشروع في مداخلات قانونية من جانب الحكومات أو الأفراد ؛ وعليه يمكن اعتبار الأعراف (الأخلاقيات) بمثابة مدوّنة سلوكية لاشعورية محفورة في وجدان الفرد، وهذا هو بالضبط سرّ سطوتها وقدرتها العظمى في التأثير وحضورها في اللحظة المطلوبة .

العلم والتقنية :

ثنائية البناء المفاهيمي والتوظيف البراغماتي

العلم - والتقنية كذلك - بناءٌ مفاهيمي فوقي مثلما هما وسيلة براغماتية لتطويع الطبيعة وجعلها مصدر قوة إثرائية على الصعيد المادي للفرد ومجتمعه ، وقد صار العلم منذ الثورة الصناعية الأولى وماتلاها قوّة راسخة في تطوير الحياة البشرية والإندفاع بها نحو مرتقيات أعلى، لكن ماذا عن العلم باعتباره نسقاً من الأخلاقيات ؟، أو لنجعل السؤال مُصاغاً بطريقة أكثر دقّة من الناحية المفاهيمية : ماذا عن البنية التحتية القيمية التي يساهم العلم في ترسيخها والإرتقاء بها ؟ تلك موضوعة معقّدة ومشتبكة، وهي موضع دراسة مبحث تأريخ العلم وفلسفته بالإضافة إلى أنثروبولوجيا العلم وعلم اجتماع المعرفة العلمية، ثمة نمطٌ مميز من التغذية الإسترجاعية Feedback بين التطوّر العلمي والإرتقاء الأخلاقياتي الفردي (تعزيز قيم النزاهة والمصداقية وأخلاقيات البحث العلمي) ؛ لكن يبدو أنّ هذه التلازم بلغ مرحلة مفصلية بتنا فيها نشهدُ افتراقاً بين المنجزات العلمية ومفاعيلها المشهودة على الأرض.

الثورة التقنية الرابعة :

المتفرّدات الفرانكشتاينية الرابضة على الأبواب

نشهد في أيامنا هذه معالم متزايدة تنبئ بتعاظم مفاعيل الثورة الصناعية الرابعة التي ستعيد تشكيل عالمنا لا على الصعيد التقني حسب بل ستمتد آثارها لتشمل إعادة صياغة وجودنا البشري وكينونتنا الذاتية عبر تداخل غير مسبوق بين المنظومات البيولوجية والمادية ؛ وهو الأمر الذي ينبئ بتغيرات ثورية لم نشهد منها سوى قمة الجبل الجليدي، وستتوالى المشهديات غير الإعتيادية لها في السنوات القليلة القادمة، وربما قد نشهد حلول " متفرّدة تقنية Technological Singularity " ستمثل إنعطافة كبرى في شكل الوجود البشري و البيئة التي تحيا وسطها الكائنات الحية.

(التفرّدية Singularity) مفردة عظيمة الأهمية وذات مدلول دقيق، وهي تعني بشكل عام حالة تختلف نوعياً - وعلى نحو جذري - بين ماهو سابق لها وماهو لاحق عليها، وفي حالة العالم الرقمي والذكاء الإصطناعي تعني تحديداً تلك الحالة التي لايمكن فيها للإنسان متابعة إستمرارية وجوده من غير دعمٍ (جزئي أو كلي) من الوسائط الرقمية التي ستتجاوز مرحلة الوسائط الخارجية (مثل الذاكرات الحافظة للبيانات، الهواتف النقالة، قارئات الكتب والنصوص،،، الخ) لكي تصل مرحلة التداخل البيولوجي مع وظائف الكائن الحي (الرقاقات المزروعة في الدماغ البشري، أجهزة تدعيم السمع أو الرؤية، الوسائط التي تسمح بخلق بيئات إفتراضية ذات سمات محددة ولأغراض محدّدة هي الأخرى،،،، الخ). لن يعود باستطاعة الكائن البشري بعد عقود قليلة من يومنا هذا التعامل مع بيئته من غير قدرات إحتسابية ومُعالِجات للمعلومات والبيانات تفوق قدرته الذاتية مهما توفّر على قدرات بيولوجية وعقلية متفوقة. كيف سيكون شكل العالم حينئذ ؟ هل سنشهد طبقية غير معهودة بفعل متفردة الذكاء الإصطناعي الفائق هذه ؟ وهل سنصبح عبيداً لروبوتات خلقناها نحن ؟ هنا تطلّ المقامرة الفاوستية بأجلى مظاهرها ثانية.

متفرّدة الجائحة الكورونية الراهنة

(عالمُ مابعد الجائحة الكورونية لن يكون كالعالم الذي قبله) : أظنّ أنّ هذه العبارة هي الأكثر شيوعاً - من عبارات أخرى سواها - ردّدتها كتابات الفلاسفة والمفكّرين ذوي المراتب الثقافية الرفيعة في الوقت ذاته الذي صارت فيه إيماناً راسخاً لدى سكّان كوكبنا الأرضي. الجائحة الكورونية الراهنة تمثل بحكم واقع الحال متفرّدة غير مسبوقة لنا، وليس هذا بالأمر اليسير ؛ فهو يشي بأنّ الناس راحت تستشعرُ (مستعينة بأدوات التفكّر العميق المدعوم بالوسائل العلمية التحليلية أو بمحض القناعة التي تتخذ شكل الإيمان الميتافيزيقي) بأنّ البشرية بأسرها تخوض في لجّة مخاضة عسيرة باهظة التكلفة سيترتّب عليها بالضرورة تغيّر راديكالي في أنماط الحياة البشرية وصورة العلاقات الحاكمة بين البشر والبلدان والجغرافيات فضلاً عن تضاريس الخرائط الفكرية على كافة الأصعدة.

ليست أياماً مريحة أو مرغوباً فيها هذه التي نعيشها اليوم ؛ لكنّ هذا هو واقع الحال ومايستلزمه من قوانين إجرائية صارمة للتعامل مع حالة تنطوي على الكثير من الطارئية وتهديد البشر الذين يتمايزون فيما بينهم تمايزاً عظيماً بشأن تشكلاتهم النفسية وكيفية تعاطيهم مع الأزمات : البعضُ يذهب مذهباً ديستوبياً حالكاً يتناغم مع رؤيته السوداوية للأمور ؛ فيصوّرُ واقع الحال وكأننا أصبحنا على أعتاب مرحلة قيامية apocalyptic منذرة بفناء البشرية، وثمة آخرون (هم ذوو معرفة علمية مقبولة في الأعمّ الغالب) يميلون لعقلنة الأمر وتوصيف الحالة وفقاً لمبادئ علمية متفق عليها في علم الوبائيات أو الجائحات المرضية، وإذا ماكان لنا أن نستخلص خلاصة مفيدة فسنقول أنّ العلم والتقنيات المرتبطة به هي الملاذ العملياتي الذي يبدو متفرّداً في قدرته على تعزيز ركائز الأمل والتفاؤل والعمل الإيجابي القادر على تجاوز هذه المحنة (الكورونية) بأقلّ الخسائر الممكنة.

صحيحٌ أنّ هذه الجائحة الوبائية الكورونية تبدو شديدة القسوة وغير مسبوقة ؛ لكنّ العقل العلمي المدرّب لاينظرُ إليها من ثقب الديستوبيا التي شاعت في أيامنا هذه وغادرت ثنايا كتب الخيال العلمي لتصبح أطروحات يقينية مغلّفة بأغلفة آيديولوجية أو دينية تبشّرُ باقتراب نهاية العالم وفنائه، ولن يكون أمراً مفيداً أو منتجاً في وقتنا الراهن إشاعة فكر المؤامرة الفاوستية الكامنة وراء هذه الجائحة القاتلة.

ليست مفاعيل الجائحة الكورونية كلها موتاً ودماراً وخراباً وصوراً كئيبة ؛ بل أن لها بعض الجوانب الإيجابية المحمودة، ومن أهمّ تلك الإيجابيات هو التسريع بتنفيذ بعض المشروعات التي ظلّت رهينة التنفيذ المستقبلي بسبب نقص الجرأة والدافعية لتنفيذها. ستشهد السنوات القليلة القادمة الخطوات الأولى لولوج حقبة الأنسنة الإنتقالية التي ستأذن بنهاية عصر الأنثروبوسين Anthropocene (وهو عصر صارت فيه السلوكيات البشرية ذات مفاعيل - إيجابية وسلبية - مؤثرة في الطبيعة ) ومقدم عصر النوفاسين Novacene (وهو عصر الذكاء الفائق الذي سيغدو فيه الإنسان البيولوجي مدعماً بالوسائط الميكانيكية والألكترونية، وفقاً لتعريف عالم المستقبليات الأميركي جيمس لفلوك James Lovelock ).

( يتبع القسم الثاني )

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram