طالب عبد العزيز
قلّما تستثيرُنا كتبُ المذكرات العربية-على قلتها- فالكاتب العربي لا يبوحُ، ولا يصرّح خارج حياته في الكتابة إلّا ما ندرَ، وإنْ تجرَّأ أحياناً، فهو يلمّح، وله الحق في ذلك، فهناك الكثير مما يمنعه من الكشف عن تفاصيل، شخصية وعامة في الحياة والسياسة والفن والدين وغيرها، لكنَّ فاطمة المحسن في كتابها(الرحلة الناقِصة) كانت غير ذلك، فقد أخذتنا في رحلة قرائية، ممتعة (كاملة) وعبر أزمنة وأمكنة مختلفة، يندر أنْ نعثر عليها في التدوين العربي الشخصي.
كانت مساحة الحياة المدنية والحضرية التي عاشتها فاطمة واسعةً، الحياة القلقة بالوعي، والمضطربة بأفعال السياسة والثقافة، غير المستقرة لأسباب كثيرة، والتي اضطرتْها الى العيش والتنقل بين العواصم والمدن الكثيرة(بغداد وبيروت ودمشق ووارشو ولندن وو )ومن ثم العودة لبعضها ثانية وثالثة أحياناً، فضلاً عن قدرة الكاتبة في صناعة الجملة الانيقة، التي تهتدي بلغة الأدب والصحافة، التي منحت الكتاب لمسة فنية مختلفة، أخذتْنا الى ما يشبه الحلم في تحققه وإخفاقه، وفي الإِفاقة منه، وما نتأملُه في بعض جوانب من حياتنا، نحن الذين لم نغادر البلاد.
لم تكن الرحلة جميلة بمعنى انتفاء المنغصات، إنما هي رحلة ضاجّة، وصاخبة، مستخلَصة من تجارب عميقة، وعلى غاية في الأهمية، تُطْلع قارئها على جانب هام وحيوي من حياتنا، كعراقيين، معنيين بشأن الثقافة، أو كعراقيين معنيين بحياتنا بصورة عامة، استطيع القول بأن الكتاب من أمتع كتب المذكرات الشخصية المكتوبة بالعربية، وهو فتح في هذا الضرب من الكتابة، لما فيه من الجرأة والبوح، ولما فيه من الكشف عن ما كان حبيس اللقاءات الشخصية وداخل الغرف أو على موائد الخمرة، سيكتشف القارئ حقائق سياسية وثقافية كثيرة، وسيطلع على ماهو مظلم في الحياة العراقية في فترة حكم النظام السابق مثلما سيتعرف على النبل والصداقات الحقيقية والرفقة الخالصة، ويتعرف على أسماء كبيرة، ساهمت في صنع ثقافتنا وسياستنا وجانباً آخر من حياتنا ربما.
لم تعتمد الترتيب الزمني في تسلسل احداث الرحلة، كما يفعل كتّاب المذكرات في الغالب، الذين يبدؤون من الطفولة وينتهون بالراهن، إنما ظلت تقدّم وتؤخر وتدوّن وتستذكر وتغفل ثم تعود تستحضر المدن والاسماء والأحداث، في لعبة كتابية جميلة استثمرت فيها قدرتها كقاصة وصحافية. ففي الرحلة نتعرف على فاطمة المحسن الصحفية المبتدئة، وهي طالبة في الجامعة، أو وسط صناع القرار السياسي حيث عملت في جريدة الحزب الشيوعي (طريق الشعب) منذ تأسيسها ببغداد، مطلع السبعينيات، حتى هروبها من بيروت بعد الاجتياح الاسرائيلي، حيث كانت تعمل في الصحافة الفلسطينية، وعودتها الى دمشق فلندن أخيراً أو العودة لبغداد والخروج منها ثانية.
(الرحلة الناقصة) كتبت بتلقائية وعفوية، وقد تبدو بسيطة وممكنة، لكنها غير ذلك تماماً، فصناعة الجملة واحدة من جماليات الكتابة عند فاطمة المحسن. قراءة (الرحلة) تجلو عن أسماعنا وأعيننا الكثير من الكتب المزعجة