د. نادية هناوي
لا شك أن الاستنباط هو أساس مدرسة التحليل النفسي كما أن مفهوم (اللاوعي) هو إضافة كبيرة ومثيرة في المعرفة والفهم الانسانيين،
ولكن تطبيق ذلك كله على الملحمة كرؤى جاهزة منبعثة من عموميات فرويدية لا نتيجة له سوى التخرص في أمور مفروغ منها وجزئيات هامشية، لا دليل ماديا عليها من الملحمة ولا نص صريحاً يعززها إنما هو اتباعية منبهرة بالمقولات.
وليس بالضرورة أن تكون افتراضات مدرسة التحليل النفسي وما يستمطر منها من أمثلة معينة صحيحة دائماً؛ فليس من العلمية في شيء اعتبار الافتراض والتأويل حقائق وقوانين قطعية وبالأخص في الأعمال الأدبية والفنية إذ يظلان أي”الافتراض والتأويل” قراءة خاصة.
وهذه القراءة هي الأخرى تبقى افتراضاً مؤولاً لا غير، والباحث الواعي هو من ناسب منهجه النص الذي قرأه.
ومعلوم أن الميثولوجيا تعني الإيمان بقوى فوق طبيعية وغير منطقية، الأمر الذي يضفي على أبطال الأساطير صفة خارقية، هي في جزء منها مقدسة اكتسبتها من الآلهة وجزء منها يظل بشرياً.. فكيف نفسر إذن إيجابية جلجامش وهو يقيم هذه العلاقة مع أنكيدو ؟!
ثم ما علاقة ذلك بما أرادته الأم الكبرى أرورو وهي ترسل إحدى بناتها ( شمخة) لتغوي انكيدو وتأتي به إلى أوروك كي تكون تلك العلاقة القوية بين جلجامش وأنكيدو الذي كان يضاهيه في القوة الجسمانية لكنه يفوقه في الحكمة التي تعلمها من شمخة لتكون الغلبة للقوة على الحكمة وبسببها حدثت المأساة التي منها سيتعلم جلجامش درساً أبدياً تظل البشرية كلها من بعده تتمثل به وتنصاع لهوله ؟! ثم هل يجوز أن تكون الغاية وراء رحلة جلجامش العصيبة في الجبال والفيافي جسدية بحتة وبسببها ترك حياة العز والرخاء ليعود بعدها حكيماً يعمل على إعمار مملكته أوروك؟
وكيف غاب عن اكرمان الدور البطولي الذي أداه أنكيدو والذي يتنافى مع تصويرها له بأنه كان مخنثاً، وأعني بالدور ما قدمه لجلجامش من نصائح تشي بأن له معرفة قتالية سابقة بالوحش خمبابا وبما لعشتار من مكانة في غابة الأرز ، لكن جلجامش أصر على قتل خمبابا كي يعاقب عشتار التي وشت لكبير الآلهة بما كان يفعله في أوروك بحق النساء اللائي تضرعن لها في معبدها كي تنقذهن من شروره ؟ ثم ما بالنا مما كان عليه البطلان قبل لقائهما من وقوع تحت تأثير الإغواء الأنثوي الجماعي ممثلاً بفتيات أوروك والإغواء الأنثوي الفردي ممثلاً بشمخة ؟!!.
وسيظل هذا التأثير الأنثوي متكافئاً بين البطلين وبالشكل الذي يجعل العلاقة بينهما علاقة اتحاد روحية وليست علاقة شهوة جسدية شاذة بين كائنين لا هدف لهما يبحثان عنه ويعملان على بلوغه.
وما تصوير الملحمة لعشتار وهي تتوسل الزواج بجلجامش سوى تحريف ذكوري لأسطورة هذه الربة التي توصف بالجمال والسمو، أُريد منه إثبات الفعل البطولي للذكر في مقابل إظهار الفعل الشرير والاغوائي للأنثى المستبدة.
وجدير بالذكر أن هناك دارسين ميثولوجيين ومفسرين توارتيين غربيين رفضوا أطروحة اكرمان السيكولوجية حول شذوذ جلجامش وداود من ناحية أدلتها التي لم تكن مقنعة وبعضها يبدو واهياً.. ونضيف أيضا طبيعة غرضها النفعي الذي كان بادياً بوضوح وهي تسعى إلى تدعيم ظاهرة الشذوذ الجنسي، محاولة إظهارها بمظهر طبيعي يصفها تلطفاً بـ( المثلية) .
وكثيراً ما نصادف مثل هذا النوع من الدراسات المؤدلجة التي بسبب انحيازيتها تشطح في تفسير النصوص نظراً لضعف أسانيدها التاريخية والمنطقية ولتغلب الأهواء المزاجية مع تناسي قراءات تأويلية سابقة كان من المفروض والواجب اتخاذها مرجعية، يبني الباحث المؤول طروحاته عليها تأييداً أو مخالفة أو إضافة.
ونتساءل: لماذا يجري تفريغ الملحمة من فكرها الأساس, والانصراف عن الحيوات المتشعبة المتمظهرة بشتى الكيفيات الإنسانية والتربص عند جوانب محددة وفرض تأويل الشذوذ عليها؟
إن حرف الملحمة عن موضوعها الأساس وفكرها الرئيس الذي هو الخلود والزوال والوجود والعدم هو بمثابة استهانة إن لم نقل خيانة لجوهر الملحمة الذي جسّد ويجسد إبداع الإنسان الرافديني السبّاق بفكرة أساس هي فكرة معاناة البشر في وجودهم التي ظلت تتناسل عبر العصور لتُنتج أعظم الإبداعات تأثراً بها ووصولاً إلى السارترية في الوجود والعدم وما بعدها، ولتبقى جذوة الإلهام في الأعمال الأدبية والفنية الخالدة.
وعلى الرغم من تساؤلاتنا بل اعتراضاتنا على استنتاجات سوزان المسوغة لفكرة الشذوذ لدى بطلي الملحمة أو لدى داود وجوناثان إلى جانب مسائل أخرى ــ سنؤجل القول فيها لمناسبة أخرى ــ فأننا لا ننفي ما في كتاب سوزان أكرمان من محاولة تأويلية جديدة تظل مرتبطة باسمها، ليكون أي طرح لاحق يتناول شذوذية ( مثلية) جلجامش وانكيدو عيالاً عليها بالتأكيد.
وعلى دارسينا أن يتفكروا ملياً في الأطروحات الغربية التي لا تخلو من الأغراض وعدم اتباعها هوىً وهوساً أو رغبةً في إحراز سبق خاوٍ ــ ولو محلياً ــ على حساب الحقائق الداغمة.