لطفية الدليمي
أخبرتني صديقة لي زارت ألمانيا قبل بضع سنوات أنها كانت جالسة صبيحة أحد الأيام المشرقة في مقهى برليني مع صديقة لها ، وبينما هما منهمكتان في حديث مشترك لاحظتا صبية ألمانية تتوهّجُ نشاطاً وحيوية تمشي واثقة مسرعة نحو بعض شؤونها ،
ثمّ بطّأت حركتها حتى توقفت واستدارت ، ثمّ توجّهت نحو صورة معلّقة على أحد الحيطان كان طرفها الجانبي قد انفصل عن الصورة وتهدّل نحو الأسفل ، تكمل صديقتي حكايتها فتقول: مضينا نراقب الفتاة ؛ فرأيناها تتطلّعُ في الصورة ملياً وتفكّرُ ماعساها فاعلة معها ، ثمّ أخرجت قطعة لبان كانت تمضغها في فمها وألصقتها على جانب الصورة السفلي ، ثمّ أعادت تثبيت الصورة على الحائط بعد أن تأكّدت من تطابق الحافات المتقابلة مع بعضها .
هل يمكنُ أن يحصل هذا الأمرُ في بلدنا ؟ لستُ في وضعٍ يتيحُ لي اليقين بأنه لن يحصل ؛ فلاالنزاهة ولاالمروءة تقبلُ هذا الحكم اليقيني القاطع ؛ لكن يمكنُ أن نقول بضمير مرتاح إنّ إحتمالية حدوثه تكاد تتضاءلُ إلى حد غير قابل للمقارنة مع حالة الفتاة البرلينية ، النظائر القياسية قد تنفع في هذا الشأن : من يقبلُ أن يعيش وسط تلوث بصري وبيئي لايليق بأدنى استحقاقات الحياة البشرية لن نظنّه يفكّرُ في أمر تثبيت صورة على حائط في أحد شوارع بغداد أو العراق .
لماذا فعلت هذه الفتاة مافعلت ؟ هل كان والداها ومعلّموها في المدرسة ومعظم من التقتهم في حياتها يردّدون عباراتٍ على شاكلة :
بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ وقومي وإن شحّوا عليّ كرامُ
لا ، لم يحصل شيء من هذا ، تعلّمت الفتاة منذ صغرها أنّ ألمانيا أكبر من حكومة أو رئيس وزراء أو وزير ، وأنّ حقوقها على الحكومة لها ذاتُ العلوية التي يجب أن تثعامل بها واجباتها تجاه ألمانيا ، ألمانيا هنا ليست مكافِئاً للحكومة الألمانية بل هي شيء أكبر منها ، وعندما ساهمت الفتاة في تجميل وضع الصورة فكأنها ساهمت في تجميل صورة ألمانيا وليس صورة الحكومة الألمانية ، ألمانيا تعني بالنسبة لها رمزاً كبيراً ماثلاً على الأرض ، وعندما ترتقي صورة هذا الرمز فهذا يعني بالضرورة إرتقاءً مماثلاً في الحياة الطيبة للألمان ، ألمانيا إذن رمز + منظومة قوانين عملية تحدّد شكل ثنائية ( الحقوق / الواجبات ) التي تحكمُ العلاقة بين الألماني ومجتمعه ، هذا هو حال ألمانيا ، وهو يصحُّ مع أغلب بلدان العالم المتقدّمة .
إذا شئنا المقارنة مع المثال الألماني فإنّ حكوماتنا تستطيب إعلاء شأن الرمزيات وكبح الجانب الحقوقي في علاقتها مع مواطنيها ، وحتى أمثولاتنا الرمزية الوطنية لاتكاد تغادر مثال التضحية المضمّخة بالدم من أجل الوطن ، وكأنّ العراقي ماخُلِق إلا ليموت من أجل وطن يترصده الأعداء طول الوقت ، الحكومة تسترخي لخطاب الرمزيات الفلكلورية لأنه يخفف من شأن التزاماتها المستحقة تجاه الافراد ، ويعلي شأن النبرة الحماسية التي تترافق مع خفوت المساءلة المعقلنة للحكومة ، كنّا نسمعُ في عهود سابقة أنّ القانون يجبُ أن يضمن الموازنة بين الحقوق والواجبات على أن تميل الكفة صوب الواجبات عند حالات الطوارئ . هل كانت حياة العراقيين شيئاً غير حالة طوارئ ممتدّة ؟
يجبُ أن نرتقي – كعراقيين – بفهمنا السياسي والثقافي لكي يكون لحقوقنا مشروعية مقدّسة تتوازن مع واجباتنا تجاه بلدنا ، وليس من ضرورة لبلاد تجور علينا أو قوم يشحّون علينا .
آن أوان حضور القانون وتراجع العصبيات الفلكلورية التي ماعرفت كيف تنظّفُ شارع الرشيد من تلال القمامة المتكدّسة فيه .
جميع التعليقات 1
عدي باش
شوارعنا (تحتفي) بصور شخصيات دينية أو سياسية سئمت الناس من نفاقها ، لذلك لا يهتم أحد بشأنها !!