محمود عبد الوهاب جاء في حكاية صينيّة قديمة " كان يا ما كان ، حلمتُ ذات مرة ، أنا تشونج زو ، أنني فراشة تحلّق هنا وهناك ، وترفرف بجناحيها ثم تحلّق هنا وهناك ، ثم استيقظتُ فجأة من نومي . وإلى الآن لا أعرف هل كنتُ إنساناً يحلم بأنه فراشة أم أنني فراشة تحلم ، الآن ، بأنها إنسان " .
يضعنا " تشونج زو " في صميم حيرته ، أهو إنسان حتى نخاطبه ، أم فراشة نكتفي بمتعة النظر الى ألوانها ، وهي تموج في طيرانها ، ثم إذا كان تشونج زو إنساناً حالماً بكونه فراشة ، أكان سعيداً بهذا التحوّل الذي أصبح عليه أم كان حزيناً بسبب مصيره الجديد ، وإذا كان تشونج زو فراشة حقاً وواقعاً ، أكانت الفراشة تشونج زو مبتهجة بهذا التحوّل الذي أصبحت عليه أم أنها في ضيق منه ، ثم أَلا يحيلنا تشونج زو الفراشة إلى رواية " المسخ " لكافكا وإلى قصة " الأنف " لكوكول ، وإلى غيرها من قصص أدب الخيال الحديث ورواياته ؟ . جاء في استهلال رواية المسخ : أنه " حينما استيقظ جوزيف ك ، وجد نفسه قد تحوّل الى حشرة " وفي قصة "الأنف" يتفاجأ بطلها بأن أنفه قد اختفى . ليس حلم تشونج زو أو المسخ او الأنف خيالاً استعادياً تأسس على نموذج لواقع مرئي عيانياً ، قام الحالم تشونج زو أو الروائي بتفكيك أجزاء الواقع وصنعه متخيلاً جاهزاً ، بل على العكس ، فأدب الخيال الحديث في موضوعة قصصه ورواياته متخيّل أصيل تأملي فانتازي مستقل عن عقلانية الواقع المرئي ، يحكي السارد فيه مطــمئناً وواثقاً أن ما يرويه قد حدث فعلاً . يلعب الخيال الإبداعي في تلك القصص والروايات دوراً متعالياً في إنتاج المتخيّل لا في إعادة إنتاجه من مكوّنات الواقع ، فالخيال الإبداعي أو الجامح خيال مبتكر وأصيل يعمل على تقويض الواقع وأشيائه ومحدداته ويفكّكه ، إنه خيال جامح لا محاكاة ولا إعادة إنتاج خبرة استبدالية . تأخذنا تلك الحكايات والقصص والروايات ومنها حلم تشونج زو والمسخ والأنف وغيرها ، إلى حافة الوجود ، في حالة انتشاء يتساقط فيه المألوف والعادي واليومي ، ليمكث بديله في بنية مدهشة وملتبسة وملغزة ، وفي افتراق عن الواقع الموضوعي وتباعد عنه أصالةً ومرونةً وطلاقة . على صعيد كتابة الرواية الحديثة ، فإن المتخيل فيها يرسم عالماً فنتازياً ويجسّد رؤية هشّة لا يقينية للعالم ، يلتقي بحلم تشونج زو في حيرته وكينونته المفارقة ، ( وربما كان ذلك الحلم حياة ثانية لتشونج زو تعيد إليه توازنه السيكولوجي ) . إن جوهر أدب الخيال الحديث يقوم على أساس اقتراح البدائل للواقع الراهن والراكد وليس بإمكان أحد أن يحيط بالخيال الأدبي ويحدّده ويحجّمه ، فهو فسحة ظاهرة للخيال في جموحه يعمل على تقويض الواقع والممكن والمحتمل ، وهو في تاريخيته ونشأته قصصاً وجد ملاذه بالأسطورة والحكاية الخرافية والملحمة والكوابيس والأحلام ، ما ينبغي لقارئ هذه الروايات أن يفهم الأساطير والملاحم والحكايات أولاً ليستجيب إلى فانتازيا الرواية الحديثة . في كتابه " الحكاية في التراث العربي " يرى الكاتب المصري يوسف الشاروني أن قصص" ألف ليلة وليلة " تمثل نموذجاً بارزاً لقصص الفنتازيا ، فأول قصة من قصصه " نلتقي بالجني والصبية التي أختطفها ليلة عرسها ، ثم وضعها في علبة ، وجعل العلبة داخل صندوق ، ورمى على الصندوق سبعة أقفال وجعلها في قاع البحر العجاج". كتب الروائي الكبير نجيب محفوظ أحلامه في نصوص قصيرة بلغت أكثر من 200 نص ، جمعها في كتابه بعنوان " أحلام فترة النقاهة " ، وهي نصوص تجمع بين الخيال المستعاد والخيال الإبداعي ، وهناك فرق ، حسب كانط ، بين نوعي الخيالين ، فالخيال المستعاد يعمل على استعادة ما اكتسبه الخيال من الصور ، وعلى ترابط خبرة الماضي بالتمثّلات الخاصة بالحاضر.أما الخيال الإبداعي فهو القدرة والاستعداد لإنتاج الصور في ذاتها ، بالاستقلال عن الواقع ومحدوديته ، مثل حلم تشونج زو الذي يبلغ في حيرته أن الحاِلم ، حتى استيقاظه، ظلّ يجهل إن كان إنساناً يحلم بأنه فراشة أو فراشة تحلم بأنها إنسان . يروي الكاتب الأمريكي الساخر مارك توين: أنه وأخاه كانا توأمين فــي ولادتهما ، مات أحدهما تلك الساعة ، وظلّ الآخر يجهل: أيّ منهما هو الذي مات، أخوه أم مارك توين نفسه؟. ألا يجمع حلم تشونج زو، وحكاية مارك توين ومسخ كافكا وأنف كوكول ، الخيالُ التشكيلي الجامح الذي هو حاضنة لهذا النمط من الروايات الحديثة ؟
اوراق ..حلم "تشونج زو"
نشر في: 25 مايو, 2010: 04:49 م