TOP

جريدة المدى > عام > عدنان الصائغ: الشِعر مغامرة وثورة وتغيير في شكل العالم

عدنان الصائغ: الشِعر مغامرة وثورة وتغيير في شكل العالم

نشر في: 5 يونيو, 2021: 09:42 م

يرى أن تأثير الحرب وضغطها كان كبيراً على جيلنا والأجيال التي سبقتنا ولحقتنا

حاوره: علاء المفرجي

هذا شاعر اردد قصائده، مع بعض شعراء جيله، لست بناقد للشعر.. ولا شاعر لأتحدث وأقيم تجربته الشعرية.. لكني اردد شعره عفواً.؟. كيف لا أهيم بمن كتب:

«عندما الارض كوّرها الرب بين يديه/ ووزع فيها../ اللغات (النبات)الطغاة (الغزاة)الحروب (الطيوب)الخطوط (الحظوظ)اللقاء../ والفراق (وقسّم فيها)السواد (العباد)البلاد (الوصايا)الحواس (الجناس)الطباق../ اعتصرت (روحه)غصة (فكان)العراق.»

ولد الشاعر الكوفي عدنان الصائغ الذي عام1955 في مدينة الكوفة. وحصل على الشهادة الإعدادية الزراعية. التحق بمدرسة أبن حيان الابتدائية. وقد عمل في عدة أعمال أثناء دراسته لمساعدة عائلته منها عامل مقهى، ندافاً, بائع سجائر، عامل بناء، عامل في المجاري، بائع مرطبات، بائع رقي، عامل في تصليح الراديوات. انتقل بعد الابتدائية إلى متوسطة أبن عقيل. توفي والده وهو طالب. حصل على الشهادة الإعدادية الزراعية. عمل في الصحف والمجلات العراقية والعربية. محررًا ومسؤولاً ثقافياً، ثم رئيس تحرير.

و تم تنظيمه ضمن الجيش العراقي في الحرب العراقية الإيرانية، وقد عانى في فترة خدمته العسكرية بسبب كتاباته الشعرية. استمر في الجيش إلى عام 1989. وتم استدعاؤه للجيش عام 1991، إلا أنه هرب من الخدمة.

وصفته جريدة بابل العراقية مع عدد من الادباء والكتاب العراقيين بالمرتد. غادر العراق صيف 1993 اثناء مشاركته في مهرجان جرش في عمان، وأقام فيها، ثم انتقل إلى بيروت عام 1996، حتى استقر في السويد.

من مؤلفاته: انتظريني تحت نصب الحرية، أغنيات على جسر الكوفة، العصافير لا تحب الرصاص، سماء في خوذة، مرايا لشعرها الطويل، غيمة الصمغ، تحت سماء غريبة، خرجتٌ من الحرب سهواً، تكوينات، صراخ بحجم وطن، تأبط منفى. و..،

المدى توقفت عندما اهم محطات ابداعه في هذا الحوار:

 من الكوفة، التاريخ، والابداع، كانت النشأة.. هل كان لهذه المدينة بثقلها التاريخي واللغوي والشعري أثر ما في نشأتك؟ وما هي بالضبط مرجعيات عدنان الصائغ في الشعر؟

- في مدينةٍ يحدّها المتنبي ونهر الفرات والجواهري وعلي الرماحي وبساتين النخيل والكسائي وجابر بن حيّان وأخوان الصفا وعكد اللّوي وصعصعة بن صوحان ومكتبة السبّاك وسالم يووي ومسجدها العتيق والخ.. كيف يمكنك أن تعيش فيها بدون أن تتموّج حياتك شعراً وحباً ورفضاً.

هذهِ البيئة السحرية تركتْ بصماتها لليوم على شِعري وحياتي. فكلُّ الجسور التي عبرتها والأنهار والمفازات والمحيطات، لمْ تبعدني عنها وعن تلك الينابيع الأولى والأوراق الأولى وجسر الكوفة، وايقاع تلك المويجات الخافتة والهادرة حيناً وحيناً، بلْ وأحسّها تجري تحت جلدي وسطوري للآن.

وقد عمَّقتْ هذي المدينةُ جذوري بالتراث بكل تصانيفه (دون الخضوع له)، ثمَّ لتحملَني وتُحلِّقَ بي بعيداً في أفقِ الحداثة وتخومِ العالم.

 (تأبَّطتَ المنفى) وعانيت الغربة مرتين، مرة الغربة داخل البلد تلك التي يسميها باسترناك «الغربة الصعبة»، ومرة خارجه.. ما تأثير الغربة أو قل النفي على نتاجك الشعري؟ في رؤيتك كشاعر ورؤيتك لقضايا الوطن بشكل أكثر اتساعاً وعمقاً بسبب اتساع زاوية الرؤية، والحرية المتاحة، وأيضاً الانفتاح على ثقافة جديدة؟

- الغربةُ؛ التي عانيناها ونحنُ داخل أوطاننا، لا تقلُّ عن غربتنا ونفينا خارجه. وما ذاك إلا لأنَّ شرطَ الحرية هو أساسٌ لوجودك كإنسان أولاً، وكشاعرٍ بالأخصِّ في أي بقعةٍ تكون فيها. لذا كان الإغتراب بكل تلاوينه هو السمة الرئيسية لنصوصنا في الداخل على المستويات كافةً.

في المنفى وقد حققنا إلى حد كبير شرط الحرية، اتسعتْ الرؤية أكثر للمشهد من كل أطرافه، وهذا بالتأكيد زاد ويزيد الكاتب وعياً وتفحّصاً وتفتّحاً واطلاعاً.

يقول الشاعر سيرجي يسينين:

«ماذا يعني أن تكون شاعراً

أنها تعني: فهماً للأمور بتعمق كامل

وتسليحاً لذاتك بالرقة والحساسية

وأن يعيش الناس في دمائك، يغتسلون في عروقك»..

 تساءلت مرة (أين هو الشعر الحقيقي؟) وسط هذه الفوضى الشعرية التي تعجّ بها مكتباتنا وصحفنا ومهرجاناتنا كل يوم.. هل أنت ضد الثبات والتحجر في القصيدة.. خاصة ما عرف عنك خوضك للتجريب، وفي كتابة المطولات الشعرية، والقصيدة السريعة؟ أم أنك تسعى لإضافة اشارات ابداعية في جسد النص الشعري؟

- نعم ما أكثر الشعراء وأقل الشِعر! وهذا الأمرُ لا ينحصر في بلدٍ أو عصرٍ دون غيره قديماً أو حديثاً شرقاً أو غرباً.. فالمعادن الثمينة غالباً ما تكون نادرةَ الحصول وكذلك الشعر الحقيقي، والفن الحقيقي والروح الحقيقية.

الشِعر مغامرة وثورة وتغيير في شكل العالم، فما بالك في شكل القصيدة. فمنذ فجر الإنسانية والقصيدة في تحوّلات كبرى من التراتيل في المعابد وأغاني الصيد والحقل، إلى الملاحم الكبرى، الى الشعر العمودي (بموضوعات الطلل والنسيب والحماسة والهجاء والمديح والخ)، إلى الموشحات، إلى السونيتات والتروبادور، والبند والدوبيت، والكان كان، وصولاً الى قصيدة التفعيلة والقصيدة المدورة وقصيدة النثر والنصّ المفتوح، والهايكو، والتاناكا اليابانية، والكوشيه واللوشيه والتشي الصينية، وأغاني التانغ والتنترا والبوران الهندية، والموشحات والدوبيت واشراقات المتصوّفة، القصيدة الميكانيكية، والكونكريتية، والتماعات السريالية، وقصيدة البياض إلى إلى إلى..

من يدري أو من يمكنه أن يتصوّر كيف سيكون شكل القصيدة وكذا موضوعاتها بعد مائة عام أو ألف.

لا ثبات في الشِعر، مبنىً ومعنىً ولحنا، وعلى الشاعر دائماً أن يجدد في شكله وايقاعاته وموضوعاته، لا لمجرد التغيير بل لضروراتٍ ومخاضاتٍ وتحولاتٍ فنيةٍ وابداعيةٍ ملحّةٍ يفرضها العصر والموضوع وأمور أخرى.

بالنسبة لي أستطيعُ القولَ إنني جربتُ الأنواع الشعرية: من القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة، إلى القصيدة المدوّرة، إلى النصّ المفتوح، إلى قصيدة النثر، إلى القصيدة الطويلة جداً (والتي تربو على 550 صفحة) إلى النصوص القصيرة جداً: التكوينات والتوقيعات (والتي لا تتجاوز 6 كلمات، أو سطرين).

 أنت من جيل تلظى بالحروب، وحملت عناوين مجموعاتك الشعرية (خرجتُ من الحربِ سهواً)، و (العصافيرُ لا تحبُّ الرصاص).. بأي اتجاه أثرت الحرب (الحروب) في تشكل وصياغة هذا الجيل، ومدى تأثر نتاجكم الشعري فيها؟ وما الاثر الذي تركه جيلكم والذي قلت عنه مرة «في تجربته اختصاراً وتكثيفاً لكل ما مر في تاريخ العراق المعاصر»؟

- في أخصب سنوات عمرنا ساقتنا الحربُ وجنرالاتُها عنوةً قطعانَ جنودٍ الى جبهاتِ الموت لا لشيء إلّا لحماقة قائدين غبيين جرّا بلدين وشعبين عريقين الى حربٍ تافهةٍ أغرقتنا في دوّامة من العنف لمْ نستفقْ منها لليوم، وأنهكتنا بنيةً وروحاً وثقافةً واقتصاداً وآمالاً وإلى.. ولا تزال.

وإذا خرجنا منها سهواً، فسرعان ما أدخلونا في حربٍ أخرى وأخرى. كأن قادة الحرب لا يرون في الحياة إلا غرضاً عابراً بينما الموت هو العنوان الأبقى. وهكذا ظلتْ طاحونة الموت والظلام تهرس ما تبقى من الأمل.

وإذا خرجنا منها سهواً – كما عبّرتُ في قصيدة لي – إلى أصقاع منافينا، فأن كوابيسها لا تزال تلاحقنا: صوراً وأصداء قذائف وجثثاً وأسرى ومفقودين وخراباً عميماً..

نعم، كان تأثير الحرب وضغطها كبيراً على جيلنا والأجيال التي سبقتنا ولحقتنا. وما الكاتب إلّا ابن بيئته ومحيطه وعصره.. لهذا اصطبغت نصوصنا برمادها ودخّانها لليوم.

في تلك الحقبة المريرة كانت نصوصٌ كثيرة تمضي باتجاهين متناقضين لا يلتقيان. القصيدة المباشرة والتعبوية، والقصيدة الغامضة العمياء، ولكل منهما رؤيته ومصلحته وتبريراته بل وتنظيراته. وبين هذين الاتجاهين وجدتُ ومعي قلةٌ رائعة – أن القصيدة الحقّة أعلى وأسمى من أن تسير في أيٍّ منهما، لذا ذهبت قصائدنا بخطابها المستتر إلى الأبهى والأعمق فنياً وانسانياً والأكثر أماناً وأمانةً في التعبير عن دمار الحرب والبؤس الإنساني والتطلع إلى الحرية والسلام والأمل. فهي لا تهبط الى الواقع باللغة السطحية ولا تتعالى عليه بلغة التهويمات.

 في إطار التجييل قال لي الشاعر خزعل الماجدي في حوار معه: إن للجيل السبعيني شرف في الحفاظ على الشعر العراقي في ظرف صعب من ظرف الدكتاتورية، ما الذي يحظى به جيلكم جيل الثمانينيات من هذا الشرف؟

- رغم عدم قناعتي بمسألة التجييل الشِعري وكذلك تقسيم شعراء الداخل والخارج، لكن يمكن القول إنَّ هنالكَ انجازاً مهماً فردياً أو جماعات، يمكنه أن يشكّل ظاهرة أو اتجاهاً كما حدث في جماعة كركوك وقبلهم شعراء المهجر. وهذه الانفلاتات الرائعة هنا أو هناك هي التي حافظتْ على الشعر العراقي في تلك الفترة الدكتاتورية الطاحنة. وفي هذا الأمر أتفق مع صديقي الشاعر المبدع د. خزعل الماجدي.

 أرى أنك في (نشيد أوروك)، تستعيد كل ما حصل وأثر فيك وفي بلدك، من أماكن، وأحلام، وحروب، وحيوات، وكأنها مانيفستو خاص بك، توثق فيه تاريخك وتاريخ الوطن؟

- قصيدة الهذيانات أو نشيد أوروك ضمّت الكثير مما لا يمكن قوله في تلك الفترة من ناحية المضمون، ومضت بالتجريب الى مدىً بعيد من ناحية أخرى.. لأنها بالأساس كانتْ مسودّة طويلة مخفية اشتغلتُ عليها أثناء وجودي في العراق منذ عام 1984 ثمَّ خرجتْ معي الى المنفى حتى صدورها في بيروت عام 1996. لمْ يكن بإمكاني نشر أي شيءٍ منها في العراق (عدا ما قدَّم منها المخرج غانم حميد مسرحيتيه «هذيان الذاكرة المرّ» 1989 و «الذي ظل في هذيانه يقضاً» 1993) والتي بسبب الأخيرة غادرت العراق.

إنَّ بقاءها كمسودّات ليستْ للنشر، مخفية في أدراجي كل تلك الفترة منحني حرية التنفس وتدوين أحداث السنوات المرّة بصدقٍ ونبضٍ: سنوات الحرب العراقية الإيرانية، ثم غزو الكويت، ثم حرب الخليج الثانية، ثم انتفاضة آذار، ثم ما بعدها، ثم الحصار، ثم خروجي من الوطن، والمتاعب والمخاطر التي تعرضت لها وعائلتي مروراً بعمّان وصنعاء وعدن والخرطوم ودمشق وبيروت.

وقبل أشهر قليلة صدرت أول ترجمة لها بكتاب باللغة الإنكليزية عن دار سيرين Seren Books الويلزية البريطانية بعنوان Let Me Tell You What I Saw “اتركوني أقصُّ لكم ما رأيتُ”.

كما يعمل المخرج المخرج الألماني البريطاني بيتر ستورم Peter Sturm على عمل بعنوان The Desert Project، عن معلقة امرئ القيس و”نشيد أوروك”، على مسرح Company Splitmoon Theater. كما قدمتْ المخرجة ياسمين سيدوا Yasmin Sidhwa عرضاً مسرحياً شعرياً بعنوان “مَنْ يستطيعُ تسلّقَ السماء؟” Who Can Climb the Sky? عن نشيد أوروك وقصائد للشاعرة البريطانية جني لويس Jenny Lewis.

وكان المخرج حسن هادي قد قدّم في السويد ومصر والمغرب أعمالاً مسرحية عن “نشيد أوروك ونصوص الشاعر توماس ترانسترومر Tomas Tranströmer

 بين لغة الناس ولغة الشعر الكثير من الانقطاع.. كيف السبيل إلى التواصل برأيك؟

- لا تتقاطعُ - برأيي - لغةُ الشِعر عن لغة الناس أبداً. فاذا قال أرسطو: يولد الانسان سياسياً. فأنا يمكنني القول بثقةٍ: يولد الانسان شاعراً. ولهذا فأغلب المحاولات الأولى لكل مبدع في شؤون الحياة والعلوم والآداب تبدأ بقصيدة أو حلم. و»الشعر هو حلم مكتوب» كما يقول غاستون باشلار.

فيكون الحب هو الشعر. والتأمل هو الشعر. وكذا يكون الاحتجاجُ والرفضُ والموسيقى والرقصُ والرسمُ والمسرحُ بل الحياة نفسها تغدو ديوانَ شِعرٍ بأشكال وصورٍ وايقاعاتٍ شتى. وكانت ابتهالات الأنسان البدائي الأول هي قصائد صوتية. وكركرات الأطفال وبكاؤهم هي محاولة لقول الشعر تعبيراً عن شيء أو حاجةٍ أو رفض أو قبولٍ أو مفارقة ما.

أما الانقطاع الذي تعنيه فهو ماديٌّ بحت. سببه عوامل أخرى خارج الشعر تحصلُ لكل أمرٍ وفي كل زمانٍ ومكان. منها مثلاً شيوعُ كتاباتٍ نثريةٍ سطحيةٍ عبر محطات التواصل أو المنابر والمهرجانات بل حتى الصحف والكتب، من قبل هواةٍ أو طارئين أو محترفين، على أنها شعر. وهي لا علاقة لها بالشعر أبداً. ومنها أيضاً فرضُ خطابات إعلامية (حزبية أو سياسية أو دينية والخ والخ) على أنها شعر. وهي مجرد بيانات أو كتب لا فائدة منها سوى الفائدة التي عناها مدني صالح ذات يومٍ بقوله الساخر: “كتب أُعدِّل بها مَيلَ المبرِّدة”.

 بأي شكل أثرَّتْ الثورة الرقمية وتكنولوجيا الاتصال على الإبداع في الشعر؟ هل مارست تأثيرها في بنيته أم إن هذا التأثير كان مجرد وسائل فنية في النشر وتداول النص الابداعي؟ وهو ما منح فرصة لنشر نصوص شعرية بلا رقيب فني أو غير محتكمة للشروط الفنية في كتابة النص؟

- العالم الرقمي كأي معطىً حضاري جديد، له الكثير من الانجازات والانعطافات في كافة مستويات المعارف والعلوم والفنون والآداب ومنها الشعر. ولها أيضاً وأيضاً سلبيات منها الاستسهال وشيوع نقد المجاملات على حساب الجدية والمسؤولية الفنية، وكذا شيوع الموضات السريعة والاشاعات والفقاعات.

وقد وجد فيه العاطلون عن الابداع فرصتهم الكبيرة بل الوحيدة للوصول الى ما عجزوا عنه. لهذا تجد اليومَ طوفاناً هائلاً غير مسبوق من نقد المجاملات الزائفة ونصوص المناسبات العابرة، هذا يعلّي من شأن هذا أو تلك وبالعكس. فلا تتفاجأ حين ترى نصاً مهما قد لا يحظى بـ 50 "لايك" أو متابعة، بينما ترى أن خاطرة عديمة اللون والطعم والرائحة تتصدرها صورة مثيرة، أو نصاً فضائحياً سطحياً تقفز فيه المشاركات الى ألف أو مليون. وهذا أمر لا يأكل من جرف الابداع ربما بقدر ما يأكل من جرف الوعي والثقافة لدى المتلقي، لتعلو الأشنات على مجرى نهر الإبداع.

 في «صعاليك حسن عجمي أيضاً» قصيدتك، ما الذي تعنيه لك حسن عجمي كمكان، وتكثيف للحالة الادبية في العراق؟

- لهذه القصيدة قصة: في أحد أيام الشتاء القارصة في السويد عام 2001، وقد تغطّت المدينة بالثلج رنَّ هاتفي وكان على الخط من عمّان الصديق الشاعر علي عبد الأمير ومعه حشد من الأصدقاء العراقيين في جلسة حميمة دار الهاتف بينهم: الفنان مقداد عبد الرضا، الناقد محمد مبارك وآخرين كثر. ووجدتني بعد ذاك الحديث الحار أستعيد تلك الأيام التي جمعتنا في بغداد ولم أجدْ غير مقهى حسن عجمي ليلمَّ كل تلك الوجوه والذكريات.

 الاستاذ حاتم الصكر في حوار لي معه قال: لا أود أن يصطف الشعراء خلف متراس حرب وهمية مع النقد وتسفيه خطابه. ولست هنا بمعرض بيان منجزات النقد الشعري، ولكن يكفي أن نذكّر بمنافحته النظرية عن الحداثة ومشروعها، وضبط جهازها المفهومي في التلقي والقراءة..» وأرى أن النقد احتفى كثيراً بشعرك.. هل ترى أن النقد أنصفك؟

- الخطاب النقدي الجاد مهمٌ جداً، للمنجز الإبداعي بكل تشكلاته، مواكباً، فاحصاً، ومستشرفاً. ورغم شكوى الكثير من الشعراء والكتّاب، إلّا أن أيّاً منهم لا يمكنهُ إلغاء دور لناقد والنقد.

بالنسبة لي قد أكون محظوظاً قياساً للكثير من الشعراء في وقوف النقد طويلاً أمام تجربتي من ديواني الأول «انتظريني تحت نصب الحرية» وحتى ديواني الأخير «و...» وبالأخصّ عملي الطويل «نشيد أوروك». يمكنها أن تشكّل حصيلة كبيرة لافتة.. وهذا الأمر سلّط الضوء كثيراً على تجربتي الشعرية أمام المتلقي من جهةٍ، ومن جهةٍ آخرى أثار حفيظة البعض. غيرَ أنني أراه بعيداً عن هذا وذاك قد زادني إحساساً بالمسؤولية والاشتغال والتواصل والبحث والتجريب والحرص.

وعدا ذلك فالنقدُ – برأيي - لن يستطيع أبداً أن يصنعَ مبدعاً، كما لا يستطيع بالمقابلِ أيضاً أن يحبط أو يقلّل من شأن مبدع. وقد ذكرتُ في كتابي "اشتراطات النصّ الجديد، ويليه في حديقة النصِّ" أمثلة على ذلك عربياً وأجنبياً، أذكر من ذلك موقف النقد وقتها من رواية "يوليسيس" لجيمس جويس التي وصفها بأنها من "أدب المراحيض". أما اليوم فإنَّ هذه الرواية تحظى باهتمام ودراسات وترجمات على امتداد العالم حتى عُدّت بأنها رواية القرن العشرين.

وفي دراسة عن «فهم الرواية» كتبها جون كرو راتسوم عن «الحرب والسلم» رأى أن تولستوي لا يملك تكنيكاً في الاسلوب وأنه ليس روائياً جيداً!..

ولمْ يبعْ فرانز كافكا من روايته «القضية»، ولا شارل بودلير من ديوانه «أزهار الشر» سوى نسخٍ لا تتجاوز الثلاثين لكليهما.

ومثل هذا حصل أيضاً لـ هرمان ملفيل في روايته «موبي ديك» حين رأى نقّاد عصره بأنها مليئة بالتفاصيل المملة عن كيفية استخراج الزيوت من أجساد الحيتان وصناعة التحويت والصيد وغير ذلك. مثلما رأى النقاد في رواية دستوفسكي فصولاً محتشدة بالمحاضرات والبحوث في الأمراض النفيسة والمرافعات في قانون الأحوال الشخصية. وتعرض شكسبير طويلاً إلى لوم نقاد عصره لخروجه على قواعد المسرح الإغريقي في مسرحياته التي كان يكتبها في ذلك الوقت. وصفّر الجمهور والنقاد غاضبين حين عزف بتهوفن سيمفونيته الثالثة «هيروييكا». والخ، والخ..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram