ستار كاووش
من أولويات تقدم أي بلد في هذه المعمورة هي المحافظة على أرثه الثقافي وما يملكه من مواهب وامكانات بشرية متفوقة، حيث تُعطى المنح للشباب الموهوبين وتُفتَح الأبواب للذكاء والتطلع والطموحات التي ستساهم في البناء وتدفع عجلات التطور الى الأمام.
ومقابل ذلك هناك بلدان لا تكتفي بقتل الكثير من شبابها من خلال الحروب والقمع والاذلال والتعصب، بل تقتل أيضاً، مواهب ما تبقى منهم على قيد الحياة، تعطل نمو الزهور في حدائق تطور البلد، فتكبر جراء ذلك الأعشاب الضارة بالثقافة والابداع. ما دعاني لكتابة هذا الموضوع، بل ما شغلني كثيراً في الأيام الماضية، هو حالة ليس لها مثيل لفتاة عراقية صغيرة السن، رحلت مبكراً جداً، فنانة عراقية يافعة لم أرَ كثيراً ما يشبه أمكانيتها في الرسم مقارنة بعمرها الصغير. هذه الفتاة ياسادة ماتت بسبب ظروف البلد وما عاناه الكثير من العراقيين من إهمال وقسوة وتهجير، وكوابيس جثمت على رؤوس الناس. فنانة مذهلة بل نادرة بموهبتها العظيمة ماتت بعمر الثالثة والعشرين، هي التي كان يمكن أن تطير بأجنحة موهبتها نحو صالات عرض جميلة، بدلاً من ان تحلق روحها نحو سماء بعيدة. فنانة بعمر الورد كانت ستصبح شيئاً مهماً حقاً لو قُدَّرَ لها أن تكمل مشوارها الفني ووجدت من يفتح الطريق الصحيح نحو نجاتها أولاً واستيعاب موهبتها ثانياً، كان كل شيء سيتغير لو قُدِّرَ لها السير في شوارع بلد أمين على أبناءه ومحباً لهم. انطفأ مصباح حياتها واغلقت كراسة الرسم، طرية العود لكن عظيمة الموهبة، جميلة الشكل مثل حمامة وديعة، مثلما هي أيضاً حساسة في رسم الخطوط واختيار التدرجات التي تفصل بين الظل والضوء. لا تنسوا هذا الأسم ياسادة، انها ندى وليد، المولودة سنة ١٩٩٧، وأدعوكم فقط للتمعن في حساسية وتقنيات تعاملها مع الأسود والأبيض في رسوماتها التي أنجزتها بين سن المراهقة حتى الثالثة والعشرين، وقت رحيلها. هذه الصبية كانت عالية الموهبة وعبقريتها في بداية التبرعم، وكان طموحها هو دراسة الفن، لكن لم يتم قبولها لأن عائلتها من المهجرين. وهكذا لم تَحمِ قوانين البلد أبناءه المهجرين، وبدلاً من طمأنتهم بعد النزوح من بيوتهم وقراهم ومدنهم، أغلقت الأبواب في وجوههم.
تأملتُ تقنيتها ومعالجتها للبورتريهات التي رسمتها، فوجدتُ نفسي أمام فنانة مذهلة تتحسس التناغمات الرمادية في التخطيط وتضع الخطوط والمساحات وفروقات الضوء في أماكنها بعفوية المتمكن وبساطة الخبير، تمسك الأشكال بحساسية مذهلة، فتمنح شخصياتها من خلال ذلك نوعاً من الحيوية والحياة. يالها من جميلة تصنع الجمال، ويالها من قمر عراقي توارى بعيداً بعد أن ضاق به البلد ولم يتسع لضوءه الباهر. كان يمكن أن يتطور فنها وتمضي مع إبداعها خطوات كبيرة وتفتح لنفسها طريقاً خاصاً لو منحتها الظروف سنوات أخرى، وبالفعل كانت ندى قد بدأت بترتيب الخطوات الأولى نحو معالجات جديدة بعد أن درست مجموعة من لوحات الفنان فنسنت فان خوخ وأعادت رسمها بطريقة تقترب كثيراً من ذات التقنية التي مارسها الفنان العظيم، لكن لا القدر وقف بجانبها ولا رعاها البلد ولا حتى الأطباء، فقد هاجرت مع عائلتها الى الأردن، وهناك أصيبت بنزيف في رأسها، ولم تُشَخَّص حالتها جيداً بسبب الأهمال وجشع المستشفيات الأهلية، لترحل وهي بعيدة عن مدينتها ومكانها الذي ولدت فيه. هذه الوردة العراقية التي سحقتها الظروف كان يمكن ان تصبح بستاناً من الورد، وهذه الجوهرة الثمينة كان من الممكن ان تصير قلادة تزين الجمال العراقي، لكنها غادرت وهي لا تزال -كأسمها- ندىً عالقاً بأطراف وردة الفن العراقي.
سلاماً أيتها الفراشة التي خرجت من سور حديقة البلد لتغادر بعيداً، بل بعيداً جداً، تحية لك ولروحك يا إبنة بلدي الجميلة، فليس بوسعي الآن غير الأشارة لك في هذه السطور، وما كلماتي المتأخرة هذه سوى تحية لك، تحية لصبية جميلة من بلدي ، صبية سيبقى ذكرها شاهداً على الجمال الذي لم نستطع المحافظة عليه من الضياع...مع كل الأسف.