نوزاد حسناعتقد ان عشق مدينة ما لا يختلف عن عشق اية امرأة..فالعشق الاول يسعى الي خلق سمة مميزة للمدينة المعشوقة، فيما يسعي العشق الاخر الى ابراز ملامح المراة المعشوقة،وكأنها اكثر خلودا من سائر النساء والمثال الرائع الذي نستذكره دائما هو اراغون وحبه لالزا.
تجربة عشق مدينة من المدن ليست تجربة صعبة كما هو الحال في تجارب العشق العادية..فكل مدينة لهاجذورها وملامحها واذا شئنا الدقة لها اصواتها الخفية،ولا اعتقد ان اية مدينة تفتقد القدرة علي اشعال الحنين،في الاقل في قلوب ساكنيها ،او ربما في قلوب زائريهامدن جبرا كثيرة.تبدأ بالقدس في كل تفاصيلها، وتنتهي ببغداد.هذه المدينة العجيبة ..ارض الف ليلة وليلة.. ارض السندباد ذلك التاجر المغامر الذي انطلق منها ليجوب العالم ثم يعود اليها بعد كل رحلة. انا اتساءل هل نستطيع ان نقلل من شان تلك العلاقة التي ربطت جبرا ابراهيم جبرا بمدينة مثل بغداد.انني اشك في ان يكون لقاء جبرا ببغداد عابرا، بل اجزم بلا تردد انها استطاعت اغواءه والهمس في اذنيه حتى اقتادته اليها وبعثت في روحه شكلا جديدا لمغامرة كان جبرا اسيرها،واستطاع ان يعبر عنها باناقة ورهافة رائعتين بغداد مدينة لها قدرة هائلة علي الاغواء..لها طقسها العريق في جذب الاخرين اليها .اتذكر استاذة غربية كانت تدرس في الجامعة المستنصرية في ثمانينيات القرن الماضي.ضربت ارض الغرفة المفروشة بسجادة مزركشة وهي تصرخ مرحة: اه البساط السحري.هذه الاستاذة بدت لي ساعتها طفلة، مرحة تريد ان تعود مئات الاعوام الى الوراء لكي تشعر بالنبض الحقيقي لوقائع امست الان وفي خضم الزيف المتنامي ــ طقسا جذابا قبل هذه الاستاذة كان بورخس مأخوذا بكتاب الف ليلة وليلة ..تلك التحفة البغدادية ففيه تكنيك غرائبي يستهوي مزاجا كمزاج بورخس،لذلك كان يقرأه بحرص منقطع النظير،وكان الكتاب في النهاية احد المصادر المهمة التي اسهمت في اثراء نصوصه الى حد كبير احب جبرا بغداد بكل جوارحه..كان متلهفا لزيارتها ولعل وصوله اليها كان حلما مميزا بالنسبة له(اذكر اني قبل حوالي 40سنة قبل مجيئي الى بغداد سالت في دمشق رجلا كان قادما منها: هل بغداد مدينة كبيرة؟ فاجاب :نعم ففيها 14 ملهى.بالنسبة اليه وكان سائق سيارة ربما كان عدد الملاهي هو مؤشر الكبر والاهمية. اما انا فالذي احلم به... (الفن والحلم والعقل ــ جبرا ابراهيم جبرا ــ دار الشؤون الثقافية ص206)صورة واقعية لبغدادالسؤال هنا رغبة كامنة في اعماق المبدع الراحل،لكن الاجابة تبدو مخيبة للامل،وبعيدة عن الاحاطة بروح بغداد..الا انها من جانب اخر تعكس صورة واقعية لبغداد في اوج عظمتها وانفتاحها ايام العباسيين،حيث كان يطوف في شوارعها وحاراتها عشرات الشعراء العابثين والشاعرات من القيان..وشاع فيها الغزل بالمذكر وهو غزل فاحش فرضه اسلوب الحياة في بغداد انذاك.لكن هذا الجانب الحسي لا يمكن ان يعكس صورة بغداد الحقيقية.. هذه الصورة التي التقطها سائق سيارة حين سأله جبرا سؤالا جوهريا ..عن حجم مدينة بغداد. سؤال جبرا كان في حقيقته سؤالا عن احوال معشوقته قبل اللقاء بها..وهذا ما لم يستطع ذلك السائق فهمه او الاحساس به.اعتقد ان جبرا عرف كيف يعشق بغداد ،وعرف ايضا ان يسخر كل ما لديه من اجل الاحساس بها احساسا يمثله ويدل عليه كعاشق في زمن معاييره غير دقيقة وسطحية ايضا. فالعشق هنا ــ وفي حالة جبرا بالذات ــ بديهية تفرض علي العاشق ان يشكل من مفردات عشقه علاقة جديدة تلائم صورة معشوقته كل الملاءمة، ويمنحها سمتها الخالدة بين كل المدن.واذا كان البير كامو قدم في كتابه اعراس مجموعة من المدن الغارقة بضوئها وشمسها وخرائبها وكل ما عبر عنه من خلال نزعته الحسية في كتابه ذاك،فان جبرا استطاع ان يعثر علي جذور مدينته او معشوقته ومن ثم النظر اليها علي انها الكمال الذي لا يفارفه الخلود ابدا.واذا كان العشق على المستوي الانساني يقود العاشق الى الجنون ــ كتجارب الحب العذري ــ او الاستغراق في خلق صورة غير فانية للانثى ،فان عشق المدن او عشق مدينة بالذات يحتم على العاشق ان يجعل من تلك المدينة ــ مدينة فاضلة..وهذا اعلى مراحل العشق والهيام.لدينا عاشق يوناني كبير خلق مدينة اسماها جمهورية افلاطون وحاول تنميقها وتقسيمها الى طبقات وجعل رئيسها الاعلى فيلسوفا اتعبته الثقافة..جمهورية افلاطون المخترعة كانت تخطيطا مثاليا لعشق افلاطوني لم يكتمل..واظنه لا يكتمل الي الابد.في جمهورية افلاطون لا مكان لشرور وتشوهات المدن من حوله.كان من حق افلاطون ان يعشق مدينته علي طريقته..لكن يبدو انه لم يستطع ان يحقق حالة الهيام على ارض الواقع فلجأ الى عالم المثال. جمهورية افلاطون كانت في الاساس نقدا لكل المدن التي افسدها الحكام والانظمة المستبدة.انها ادانة لاولئك الرؤساء والامراء الذين ينظرون من شرفاتهم المليئة بالزهور،وهم يرددون بسخرية:جمهورية يحكمها فيلسوف ..هذا حلم فيلسوف مجنون،لكن النقد يمكن ان يستشف من خلال البرنامج الثقافي الذي يضعه افلاطون للحاكم الفيلسوف.في هذا البرنامج يدان الحكام والرؤساء ممن تتغلب عليهم النزعة الانفعالية وحب السلطة وافتقاد الايثار والاحساس بالرعية.افلاطون عشق جمهوريته و بن
جبرا وعشق بغداد
نشر في: 26 مايو, 2010: 04:51 م