لطفية الدليميأشك في أن ذلك الإرهابي الذي فجّر نفسه قرب القنصلية المصرية عبر منزل الكاتب الكبير الراحل جبرا إبراهيم جبرا في شارع الأميرات، حي المنصور، في بغداد، كان يعرف أنه يدمر بفعلته تاريخ مرحلة ثقافية خصبة امتدت من خمسينيات القرن الماضي حتى يوم وفاة جبرا في كانون الاول 1994. وهل ثمة فارق بين تدمير الثقافة وتخريب العلاقات بين الدول ؟
الأمران ينبثقان من بئر التعصب وشهوة الدم التي تفور في عقول المتشددين وعشاق السلطة وضواري السياسة التي تدمر بأظلافها المتوحشة منجزات العقول المبدعة وتراث الفن والفكر. rn1 قبيل رحيله المفاجئ بيومين ، قال لي الناقد والروائي جبرا ابراهيم جبرا في آخر مكالمة بيننا : - الدنيا برد، خرجت للتمشي كعادتي كل يوم في شارع الأميرات ، كدت أتجمد، فعدت مسرعاً إلي البيت ، وهاتفتني صديقة رائعة من عمّان تخبرني بسقوط الثلج ، غبطتها وقلت لها أتمنى أن أتمشى معكم تحت انهمار الثلوج – تعلمين لطفية – أنا نشأت في القدس ، الثلج كان رفيق طفولتي وشبابي، كم أحب الثلج ، لا، لن أتمشى بعد الآن في نهارات بغداد الباردة ، برد بغداد يخترق العظام، ما عدت أحتمل البرد، ليت السماء تهبنا بعض ثلجها لندفأ بعده. في ذلك الغسق الشتائي البعيد، رأيته عائداً إلى بيته ملفعاً بشال صوفي بلون المشمش ومرتدياً جاكيتة من المخمل البني وشعره الأبيض المضطرب يتمرد على حقيقة سنواته الثمانين ، ويمنحه سحنة شاب في إهاب شيخ جليل. أستحضر تلك الصورة الأخيرة ، فلا أجد سوى الرماد الذي بقي العلامة الوحيدة في شارع الأميرات يشير إلى مصير المدينة التي أحبّها وأحبّته وتزوج إحدى بنات أسرها العريقة ليوثق عقد عشقه لبغداد. بقي الرماد والشجر المحترق والأنقاض شهودًا على جائحة الإرهاب وإهمال المعنيين لإنشاء متحفه وحماية إرثه الثقافي الهائل من رسائل ومخطوطات وترجمات ومجاميع شعر وأعمال نقدية ومئات الأعمال الفنية من لوحات ومنحوتات وقطع فخار لعمالقة الفن العراقي في القرن العشرين ومن بينها لوحاته وتخطيطاته الساحرة. لا ثلج الآن ولا برد يردع خطاه المسائية عن السير تحت صفوف النخل الرشيقة في شارع الأميرات ، فقد جلل الرماد والسواد فيلّته المهجورة بعد الانفجار الإرهابي ، وتهاوت أشجار اليوكالبتوس والمكتبة الصغيرة التي كنا نجالسه فيها ، وضاع جهد عمر من الإبداع وإرث مرحلة خصبة من عمر الثقافة العراقية ، وهمد صوت الموسيقى في ممرات بيته إلى الأبد . 2 كان يقول لنا بصوت بطلته سراب عفان : "ألا ترى يا نائل أنني قررت الموت وأنا في القمة من صحوي الفكري وصحوي الجسدي؟". في كامل صحوه وشغفه بالفن حضر قبل ليلة من رحيله، المعرض الاستعادي للانطباعيين العراقيين وتحدث عن الحركات الفنية العراقية وجمعية نقاد الفن واتفق مع بعض نقاد الفن على تنشيط حركة النقد الفني عبر محاضرات ومنشورات ، وفي الليلة ذاتها قرأ على الهاتف آخر قصيدة له لصديقة شاعرة ، وسألها عنا ، نحن المجموعة التي كانت تزوره تلك الفترة ، ونقرأ أعمالنا عنده ويقرأ لنا قصائده ، قال للشاعرة : تعالوا جميعاً وفي أقرب وقت لنستعيد أجواء جلستنا الأخيرة ونستمع إلى بعض الموسيقى ، سأسمعكم ما تبقى من تراتيل المغنية الأوبرالية السيدة تانيا ناصر التي أدتها في الكنيسة البيزنطية في عمان ، وأقرأ لكم المزيد من قصائدي الجديدة، شبيهة قصائد الهايكو… كنا كلما التقيناه في أيامه الأخيرة، نغادره ورجفة الخوف تنوش قلوبنا ، ولا ننطق مفردة الفقد التي كانت تتراءى لنا في ما وراء الليل . وذات مساء خريفي شيّعنا بمودته الغامرة لدى باب داره بعدما احتسينا القهوة التي أعدها لنا بيده وقال : لا تغيبوا عني ، أسعد بحضوركم كثيراً. تعلمون كم أنا وحيد هذه الأيام. هاتوا كل ما تكتبون. عندما أغلق الباب واختفى في الليل ، خنقتني غصة ، وبحت للصديقة الشاعرة دنيا ميخائيل بمخاوفي ، ففاجأتني بالهاجس ذاته : أحس انه على وشك الغروب. كنا نرى ببصيرتنا اقتراب الزائر الأخير ، ونسمع حفيف الأجنحة ، ونحس مذاق الرماد في أفواهنا.3 قبل أسبوع من رحيله ، أعارني نسخته الوحيدة من روايته "يوميات سراب عفان"، التي لا تزال في مكتبة بيتي المهجور في بغداد ، وعلّق ضاحكاً : أي مصادفة ، لو كنت قرأت كتابك "عالم النساء الوحيدات" ، لقلت ربما حدث شيء من التأثر والتأثير بيننا ، لكن لا أنا قرأت كتابك ولا أنت. كتابك صدر عام 1986 وروايتي صدرت عام 1992. اقرئيها ، ستجدين فيها تقنية روائية مختلفة ستعجبك لطفية ، لأني أعرف مزاجك الرؤيوي وتوقك لتخطي المحددات. نتحدث عنها في زيارتكم التالية. تهاتفنا قبل ثلاث ليال من غيابه المباغت ، وكنت موشكة على الانتهاء من قراءة الرواية. أخبرته أننا سنتحدث عنها عندما نلتقيه مساء الأربعاء، وقد كتبت قراءة انطباعية عنها. في صباح الاثنين 12 كانون الأول 1994، اتصل بي كاتب صديق يبلغني نبأ رحيل جبرا، ويطلب مني كتابة كلمة في وداعه. قلت له : لا أستطيع الكتابة ، وعاجزة عن البكاء أيضاً .غادرنا جبرا وألغى مواعيدنا في مفكرته من دون أن يخطرنا بعزمه السري على الرحيل. قال لي بنبرة اعتذار و
ثلج لجبرا ابراهيم جبرا ورماد لمتحفه
نشر في: 26 مايو, 2010: 05:07 م