لطفية الدليمي
بعض نصوصنا الابداعية تذيبنا في أتون تشكّلها وتعيد تكويننا، وتلك هي الأبقى بين أعمالنا، فالنص الابداعي نتاج احتدام فكري وتنقيب فلسفي وانثيالات خيال مبهرة تحدث احتراقا وسطوع وعي يزيح الغموض عن الفكرة القلقة ويصقلها، نص مثل هذا يهبنا بعض ومضات ضوء تؤكد مرورنا في متاهة العالم.
يتشكل العمل الروائي في عقل الكاتب بعد اختمار فكرته في فترة قد تطول أعواما أو تقصر، وربما تنطلق صورة محرضة أو شرارة وامضة في زمن وجيز فتمنحه احتمالات وإمكانات لبناء حياة مكتملة ، قد تولد فكرة الرواية بشكل شواش ممتع غير محدد السمات، فيعمد الكاتب إلى إخضاعها لمختبره لتتشكل بهيأتها البدئية التي تنبني عليها الوقائع وتنولد الشخصيات تباعا، وعندها تكتمل موجبات العمل و تتخلص الرواية من فوضى الرؤية البدئية عندما يمسك الكاتب إزميله فيشذب ويحذف الزوائد اللغوية والمشهديات الزائدة التي انبثقت لحظة التشكل الأولى وسط الحماسة المنفعلة والانهمارات غير المعقلنة، وعندها تبدأ عملية النحت والتخليق تماما مثلما يفعل النحات وهو يتخلص من زوائد الطين والرخام ليجسد تمثاله الكامن في مخيلته ويصنع له نظامه الخاص من خرس كتلة الحجر أو من قطعة الطين الصمّاء التي لاشكل لها .
مايهمّ في متعة الابداع أنها تعيد شحذ وعي الكاتب كل مرة وتقترح له- وهو منغمس باجتراح نصه - دروبا وممرات لم يسلكها من قبل، تمنحه العملية الابداعية رؤية غير مسبوقة لعصره واستشرافا لما هو آتٍ من مستقبل البشرفتصبح كتابة الرواية وعيش أحداثها تجربة فكرية ممتعة من جانب، لكنها تتطلب منه تعاطيا فلسفيا هادئا مع الوقائع والشخصيات وهو في خضم انسحاره الجامح، فإذا نجح في الموازنة بين الانسحار الجامح والتفكر المنطقي تفتح له الرواية آفاقا معرفية واسعة من جانب وتعزز بنية روايته الرؤيوية من جانب آخر.
غالبا مايحصل معي هذا أثناء عملي في رواية جديدة؛ لكنه تكررعلى نحو أكثرسعة وشمولا مع روايتي (مشروع أومّا ) التي ستصدر قريبا–عن دار المدى – فقد عشت فيها ومعها شهورا مضاءة بالبهجة تتفجر فيها التساؤلات والكشوف المباغتة، وبعد فراغي من التجربة الروحية الممتعة التي عشتها معها أحسست بنوع من الخواء البارد وظلال من وجع التخلي لابتعادي عن شخوص الرواية الذين تركتهم وحيدين يواجهون مصائرهم في عراء الزمن، وشرعت أفكر برواية او كتاب جديد استغرق فيه زمنا قد يطول أو يقصر .
في غمار عملية التخليق الروائي واشتغال المخيلة بأقصى طاقتها كنت أتماسك جيدا وأقاوم كل وَهَنٍ أو ألم وأحيا ليلي والنهار مع شخصياتي التي أبتدعها وأحبها وأشفق على انكساراتها وأبررمخاوفها وانهياراتها وأصنع لها مساراتها الملغومة وصراعاتها وهزائمها وانتصاراتها.
يتجاور لدى الكاتب فعلان أساسيان وهو يكتب: الخلق والمقاومة، يقاوم برؤاه المتلاحقة وعقلنة أسلوبه وتحديد مراميه، وينشئ سدا مانعا أمام أي اختراق هامشي لمشروعه المتشكل، عند هذه النقطة تزدهر روحه بماينسجه من صنيع المخيلة وخلاصات التجربة وثمار معارفه المكتسبة التي صاحبت نمو الرواية.
يقول الكاتب الفرنسي صاحب نوبل (اندريه جيد):
أعمالنا تلصق بنا كالوميض بفوسفورهِ
صحيح أنها تصنع أبهتنا ، لكن بإذابتِنا
لقد خبرت ذلك حقا: الإنغمار في العمل الإبداعي يذيبني ويعيد تشكيلي، يمنحني الانغماس في التخليق طاقة متجددة لاتخاذ مواقف غير مسبوقة في الحياة الحقيقية والكتابة، فتتخصب المخيلة وتزدهر الروح خلال فعل الكتابة والتقدم في مسالك العمل الروائي، وتلك لعمري أهم نِعَم الابداع وأكثر عطاياه الجليلة سطوعا وقيمة.