ستار كاووش
أحب رؤية الفوضى التي تتركها مواد الرسم المتراكمة فوق بعضها في المرسم، الأطارات المتناثرة هنا وهناك، اللوحات الكثيرة غير المكتملة، علب الألوان المرمية دون عناية على الأرضية، لكني رغم ذلك أرتب المرسم مرة في الأسبوع، كي أتمكن من الحركة بسهولة والتنقل بين كرسيين، الاول قرب مسند الرسم،
وهو يتيحُ لي من خلال عجلاته، التحرك بسهولة والميلان بجسدي ويدي نحو باليت الألوان، وبذلك أحصل على المرونة التي أحتاجها لوضع الخطوط والألوان على سطح اللوحة، والكرسي الثاني أكبر قليلاً وهو يستقر في زاوية بعيدة عن مسند الرسم، وهناك اجلس بضع مرات في اليوم وأنا أنظر من بعيد الى اللوحة التي أعمل عليها، لأرى الأماكن التي ستحذف أو تُعَدَّل، أو التفكير بالتفاصيل التي يمكن أن تضاف او تتغير. والمسافة التي بين الكرسيين هي الزمن الذي اتخذه لتغيير مسار اللوحة أو الانعطاف بها واضافة شكل جديد أو تعديل مساحة لونية معينة.
هناك كلمة شائعة تقول (ليس كل ما يلمع ذهباً) لكني في الرسم أفكر عكس هذه المقولة، لأن كل شيء عندي له قيمة، بل كل الأشياء يمكن أن تتحول الى ذهب لو استثمرناها بشكل مناسب أو سلطنا عليها الضوء بطريقة ملائمة، حتى الاشياء الصغيرة يمكنها أن تقوم بهذا الغرض، لذا أحاول ان أوظف وأرسم في لوحاتي أي شيء حتى وان كان عابراً أو صغيراً، أو حتى مهملاً. فحين أمنح الاشياء الصغيرة قيمة جمالية من خلال التقنية واللون، فهذا أفضل من التعكز على مواضيع كبيرة قد تُشغل البصر أكثر من معالجات وتقنيات الرسم ذاتها، والتي هي أساس الأبداع. حين أدخل المرسم وأنغمس بالعمل أصبح جزءً من المكان وملابسي تغدوا جزءً من باليت الرسم، لأني عند تنظيف الفرشاة أو تقليل بعض الألوان المحملة بها (لضرورات تقنية) غالباً ما أقوم بمسحها بشكل تلقائي بالسروال أو القميص، لأن نظري في تلك اللحظة يكون مثبتاً على اللوحة ولا يمكنني النظر لخرقة التنظيف التي تتدلى من مسند الرسم.
بكل الأحوال، أحاول كرسام إكمال الخطوات التي قام بها الفنانون السابقون، لكن بطريقتي الشخصية، كما فعلوا هم تماماً مع سابقيهم، وتشابه الموضوعات بيننا (كلنا) ليس ذات أهمية، بل هو بمثابة عذراً جمالياً يحاول كل رسام من خلاله الوصول لِلَمسَته الشخصية التي تمنح العمل الفني قيمة وتفرداً. لذا بدلاً من إنشغالي بالموضوع، أعير انتباهي دائماً للطبيعة وما تمنحني إياه من جمال وتناغمات وما تحمله من علاقات بين الاشكال والألوان، بين تقاطعات الحجوم وإستقرارها، بين هذا الميلان وتلك الاستقامة. أنظرُ بتمعن الى التفاصيل، لأتأكد كل مرة بأن لا شيء عابر، لا في الطبيعة ولا في الحياة، وكل شيء له دوره وتأثيره وحكايته التي علينا سماعها.
لتحقيق النجاح والوصول الى نتائج جيدة في عملي كرسام، يجب أن يكون هناك منهاجاً ثابتاً وتخطيطاً جيداً للوقت، وبدون ذلك ستتبعثر الاشياء التي عليَّ انجازها وستتراكم التفاصيل، فالوقت هو الاساس وهو القيمة الحقيقية التي توصلني لما أريد انجازه. الوقت هو المختبر وهو الدرس، وأساس تطور التجربة، ثم عليَّ أن أضع في الاعتبار ساعات الفشل والمحاولات غير المجدية، وأمنح عن طيب خاطر جزء من وقتي لمحاولات تجريب العديد من التقنيات، فلا النظريات ولا الافكار المجردة هو ما يقودني الى النجاح، بل من يفعل ذلك هو التجريب والمحاولات التي لا تتوقف. والأمر يشبه الوقت الذي يخسره الأسد في محاولات الصيد التي لا ينجح سوى عدد محدود منها، لكن هذا العدد يكفيه للبقاء حياً. لذا يمكنني القول بكل ثقة، أن ثمانين بالمئة من لوحاتي توقفت معها في منتصف الطريق، لأني لم أستطع المضي معها اكثر حينها، وحين أعود اليها مجدداً بعد وقت طويل نسبياً، بحثاً عن الحلول التقنية، أصل في مرات كثيرة معها الى نتيجة متوسطة، ثم اجاهد معها أكثر حتى تكون النتيجة النهائية مقنعة بالنسبة لي.
ليست هناك وصفة جاهزة للرسم، بل العمل والمثابرة هو الاساس، كذلك الحساسية والخبرة في التوصل الى التناغمات والتدرجات المناسبة والتكون الجيد والخطوط والالوان التي تعكس عاطفة من نوع ما. في النهاية، مهما قطعت من خطوات، يبقى الخطأ هو اساس النجاح بالنسبة لي، بعيداً عن الثوابت والنظريات الجاهزة.