طالب عبد العزيز
أخذ الحديثُ عن عراقييّ الداخل وعراقيي الخارج حيّزاً لا بأس به، في الصحافة، بعد أحداث العام 2003، وتبادل الطرفان المنابزة والتهم، لكنَّ الحديث ذاك خفت أواره بعد الاحداث الجسام التي عصفت بالبلاد كلها، ولحق الضرر بالجميع، داخليين وخارجيين، فقد تم فرز الولاء للوطن والناس من عدمه،
ليس بموجب المعادلة الظالمة تلك، إنما بحسب الموقف الصحيح، الذي تبناه كلا الفريقين، فهذا عائد للوطن، يئس من امكانية إصلاحه، ولم يرتضي لنفسه أن تكون مع المحتل والخائن والعميل فقرر الرجوع الى منفاه، وذاك، الذي لم يغادره، لكنه وجد نفسه منفياً فيه، بعد خرابه، واقتتال اهله، فآثر البحث عن منفى ينأى فيه بنفسه عن آلة القتل والتشريد التي طالته.
لفترة طويلة ظلت صورة العراقيين داخل البلاد مشوهة، بأعين غالبية عراقيي الخارج، وهي صورة نمطية، الصقت تهمة الخيانة بكلَّ من ظل داخل البلاد، ولم يغادرها، فهو مع النظام، وبعثيٌّ بالفطرة، وخائن لبلاده من وجه نظر قاصرة بفعل إغترابها وبعدها عن البلاد، فقد التبست الصورة تماماً عندهم، وهناك صورة نمطية أخرى، لكنها كانت رومانسية الى حدٍّ ما، تبناها غالبية عراقيي الداخل، مفادها بأنَّ هؤلاء، المغتربين سيبنون البلاد، بما لديهم من ولاءٍ وحبٍّ وخبرات، لكنَّ ثمانية عشر عاماً كانت كفيلة بفرز كلّ ما غمَّ على العراقيين جميعاً، فقد اتضحت الصورة، وتبيّن الوطنيُّ من العميل، والغيور عليها من الخائن لها. فمات مع من مات الوطنيُّ الغيور، وتنعم بالمال والسلطة مع من تنعم الخائنُ والعميل، وعاش عيشة سعيدة.
أليوم، وبعد تتابع السنوات، أرى بأنَّ ثقافة الولاء والتخوين تلك، لم تعد قائمة، لأنَّ المصيبة أعظم، فقد شرّعت الديمقراطيةُ الجديدةُ الفساد والقتل، وجني المناصب، وتقاسم السلطات، وخاب مسعى الشعب المسكين، بتحقيق طموحاته في الدولة المدنية، أو ما يسمّونه بدولة المواطنة، وأصبحت مفردات مثل الانتخابات، والدستور، واسترداد الاموال المنهوبة، ومحاسبة القتلة واللصوص، وبناء البلاد على اسس علمية، وغيرها مزحاً ونوادر يتلفظها المغلوبون على أمرهم، في مجالسهم العامة والخاصة، أما السياسيون الحاكمون وزعماء الاحزاب والكتل وسواهم، الذين يمسكون بدفة البلاد، من المتقاسمين والمتحاصصين فلم يعودوا يؤمنوا بشيء اسمه العراق، وباتت مصداتهم أقوى من صياح المتظاهرين في الساحات. هناك، منطق جديد للخيانة يتأسس. هناك عراق ميؤوس منه الى الابد.
لكننا، نحن الذين ما زلنا في مستنقع البلاد الى اليوم نغبطُ أصدقاءنا، الذين غادروا العراق بعد أحداثه المرعبة، أو الذين عادوا الى منافيهم ومغترباتهم ثانية، وقد احتفظوا برؤوسهم سالمةً، بعيداً عن آلة القتل، التي ما انفكت تلوح.. أغبطهم على شيء واحد، هو حريتهم في كيل الشتائم للنظام، والمجاهرة بذكر مساوئ رجالاته، وفساد احزابه، هذه الحرية التي لم تتح لنا لا في سنوات حكم نظام صدام حسين، ولا في سنوات حكم ما بعده، وقد تساوينا جميعاً بالخيبة وذهاب الامال والامنيات.