لطفية الدليمي
ساد لدينا منذ عهود مديدة أنّ العلم هو الملاذ الفكري الآمن لكلّ من يودُّ البحث النزيه الساعي لتكريس المعرفة والتوغّل في أسرار الكون بغية كشفها وتطويعها لاحقاً لخدمة النوع البشري، وأنّ كلّ ممارسة علمية إنما دافعها فضولٌ بشري خالص هو بعضُ طبائع البشر (أو معظمهم على الأقلّ)، وأنّ من مميزات العقل العلمي إنفتاحه الكامل لتقبّل كلّ النتائج غير المطروقة من قبلُ وغير المحكومة بمنظومة إعتقادية Belief System. العلمُ بطبيعته، وبموجب هذا التوصيف، قلعةٌ مضادة للآيديولوجيا وإن كان هذا لايمنعُ أو يفترضُ أنّ ممارسيه هم بالضرورة كائنات غير مؤدلجة ؛ لكننا في الأقلّ لم نسمع عن فيزياء شيوعية أو بيولوجيا رأسمالية. السياق المفترض في كل ممارسة علمية هو أنها ممارسة بشرية مدفوعة بالفضول البشري الخالص الذي يعظّمُ جمال المعرفة الإنسانية ومن ثمّ يسعى – كلما كان هذا ممكناً – لتوظيف المعرفة المتحصّلة في تطبيقات تقنية مفيدة.
لكن برغم هذا الرأي السائد، وبرغم تعاظم صيحات موت الآيديولوجيا (في سياق مماثل لميتات كثيرة : موت الفلسفة، موت الرواية،،،،) نجد أنّ أذرع الآيديولوجيا صارت تتسلّلُ إلى أماكن كنّا نحسبها قلاعاً طهرانية و مصدّات منيعة بوجه كلّ ممارسة آيديولوجية قائمة على منظومة إعتقادية مسبّقة، وسيكون غريباً للغاية أن يصبح العلم ميداناً لغزو آيديولوجي منظّم وبخاصة في ميدان محدّد مثل الفيزياء التي نحسبها أكثر منعة من سواها في الوقوف بوجه سطوة الآيديولوجيا لأنها في النهاية مسعى بشرياً لفهم القوانين الحاكمة للطبيعة. قد نتفهّمُ مثلاً أن يكون مبحثٌ علميٌّ مثل البيولوجيا عُرضة لغزوة آيديولوجية من نوعٍ ما تسعى لتكريس نظرة سياسية أو سوسيولوجية مثلما حصل في الحقبة النازية التي سعت لإشاعة تأصيل علمي لفكرة تفوق العرق الآري، وبالتالي كان من الطبيعي تسويغ تخصيص التمويل الكبير لعلم تحسين السلالات البشرية Eugenicsبالترافق مع القتل المنظّم لكلّ ذوي العاهات البدنية أو العقلية ؛ لكن أن تتسلل الآيديولوجيا إلى الجبهات البحثية المتقدّمة في الفيزياء فذلك مبعثُ حيرة كبرى لكلّ متابع لتأريخ العلم وأخلاقياته وفلسفته.
* * * * *
الفيزياء هو العلم الأحبّ إليّ بين العلوم، وهذه حقيقة كتبتها كثيراً وتشهد بها مقالاتي ومترجماتي. عندما كنتُ منغمرة قبل أربع سنوات في ترجمة كتاب مثير للفيزيائي ذائع الصيت (بول ديفيزPaul Davies ) وعنوانه (الأسئلة الكبرى : الفيزياء الحديثة وأحجيات الكون والوجود البشري)، والذي آملُ أن ينشر قريباً عن دار المدى بعد تجاوز بعض العقبات اللوجستية، تطلّب منّي الأمر مراجعة موسّعة لمفاهيم ونظريات علمية محدّدة وعناوين لكتب صارت من الكلاسيكيات في ميدانها، وكان بين هذا المفاهيم والنظريات واحدة بعنوان (نظرية الأوتار String Theory)، ولستُ هنا في وارد تقديم أطروحة مختصرة عن هذه النظرية لكني سأكتفي بالقول أنّ السعي الملحمي للفيزياء لإيجاد نظرية لكلّ شيء Theory of Everything، أي بمعنى بلوغ توصيف رياضياتي موحّد يشمل كلّ القوى الأساسية في الطبيعة، قد إنتهى إلى مقاربتين : الأولى هي نظرية الاوتار، والثانية هي نظرية الثقالة الكمومية Quantum Gravityبكلّ تفريعاتها الممكنة (ومنها الثقالة الكمومية الحلقية)، وهذا التوضيح التقني المقتضب يكفي هنا، ومن شاء الإستزادة وامتلك مايكفي من الشغف فله أن يراجع الأدبيات المعروفة في هذا الميدان.
كان بين مقروءاتي أثناء ترجمة كتاب ديفيز المذكور كتاب بعنوان (مشكلة الفيزياء : نهضة نظرية الأوتار، وانحدار العلم ومايأتي لاحقاً). الكتاب منشور عام 2006، وقد ألّفه فيزيائي عالمي ذو سمعة كبيرة هو (لي سمولِن Lee Smolin)، ونُشِر مترجماً إلى العربية من قبل المركز القومي للترجمة عام 2016. الكتاب رائع بكلّ المقاييس، وأنصحُ بقراءته لسببين : الأول إنه كتابٌ يقدّمُ تأريخاً دقيقاً لتطوّر نظرية الأوتار من قبل أحد مطوّريها الاوائل (وإن كان غادرها في مرحلة لاحقة) وبطريقة تتجاوز التعريفات السياحية الموجزة التي تقدّمهاكتب أخرى، والثاني هو أنّ المؤلّف يقدّمُ موضوعات تتجاوز نطاق الفعالية العلمية والمفاهيم العلمية الخالصة، ويدخل نطاق سوسيولوجيا العلم وفلسفته وسياساته ولاسيما في الفصول الأخيرة منه، وهو أبعدُ مايكون عن لعب دور (محامي الشيطان) الذي يصوّرُ لنا العلماء كائنات طهرانية تسعى للحقيقة الخالصة في نطاق ممارسة تحكمها أخلاقيات طهرانية ؛ بل هو يكشفُ لنا فصولاً جريئة من ممارسات علمية كان فيها العلماء أقرب إلى جماعة حزبية محكومة بآيديولوجيا مغلقة يقودها قادة علميون أقرب إلى كبار كهنة العهد القديم.
معروفٌ عن الفيزياء أنها علمٌ تجريبي محكوم بضرورة مطابقة الحدوس النظرية للواقع الاختباري وإلا فإنّ الأفكار النظرية – وبصرف النظر عن مدى جمالية صياغاتها الرياضياتية – ستغدو أقرب إلى كشوفات لاهوتية محكومة بمنظومة إعتقادية مسبقة، وهنا مكمن المفارقة بين الممارسة العلمية (في الفيزياء بخاصة) والممارسات غير العلمية. ليس هناك من دليل تجريبي على صحّة نظرية الأوتار حتى الآن ؛ لكن هناك بعض الآباء المؤسسين لها (مثل إدوارد ويتن Edward Witten) يرون صحّة هذه المقاربة النظرية بسبب كمّ الجمال الكامن فيها، وقد صار ويتن لاحقاً بمثابة الأب الروحي لطائفة آيديولوجية مغلقة من الفيزيائيين يرون أنّ تماسك الصياغة الرياضياتية يمكن أن يقدّم بديلاً ممكناً لصحتها خارج نطاق الإثبات التجريبي ؛ بل ووصل الأمر حدّ أن تكون إجتماعات هؤلاء أقرب إلى مؤتمرات حزبية مقتصرة على الكادر المتقدّم والأعضاء المكرّسين فحسب.
يقدّمُ سمولن في كتابه هذا، وفي الفصل المسمّى (ماذا يخبرنا علم الإجتماع ؟)، تفاصيل مثيرة عن سلوكيات جماعة (نظرية الاوتار) التي يمكن وصفها بِـ (آيديولوجيا الجماعة المقفلة)، ويوردُ دلائل كثيرة على ممارسات أكاديمية وغير أكاديمية لم نكن نتصوّرُ شيوعها في أوساط علمية نفترضُ فيها أعلى مراتب النزاهة والمروءة وتحكيم الضمير المترفع عن صغائر الأفعال وسطوة آيديولوجيا الآباء المؤسسين والمنظومات الإعتقادية المغلقة على جماعة صغيرة Cult.
يقدّمُ سمولن في هذا الفصل أطروحة – أراها شبيهة بسلسلة متتابعة – بشأن الأسباب التي دعت لترسيخ هذا الميل الفردي للإنضواء تحت آيديولوجيا جماعة بحثية صغيرة، وسأقدّمُ في النقاط التالية تلخيصاً لهذه السلسلة السببية التي وصفها المؤلف بِـ (تأريخ سوسيولوجيا الفيزياء النظرية الأمريكية منذ سبعينات القرن الماضي) :
- كفّت الجامعات الأمريكية عن النمو – من جهة أعداد الطلبة والأقسام وأعداد الأساتذة الجامعيين المتمرّسين– منذ سبعينات القرن الماضي
- الإفراط في منح درجات الدكتوراه PH.D في الفيزياء (والعلوم الأخرى أيضا)
- يميل الأساتذة الجامعيون القدامى إلى مكافأة من يتفقون مع آرائهم، ومعاقبة من يختلفون معهم
- الجامعات لاتعمل بشكل جيد كناقلات للإبتكار
- سوف يخبرك أي عالم إجتماع حقيقي أنّك لكي تفهم أعمال جماعة علمية ما على مستوى الجامعة أو أية مؤسسة بحثية فيتوجب عليك التحقيق في السلطة الحاكمة لتلك الجماعة : مَن لديه السلطة على من ؟ وكيف تتمّ ممارسة هذه السلطة ؟
- هناك موضات بحثية في الفيزياء تمثل مصدر جذب للعقول الشابة : كانت الفيزياء النووية هي الموضة السائدة بعد الحرب العالمية الثانية وشيوع الرغبة الحكومية في تعزيز الردع النووي والأسلحة النووية الحرارية، ثمّ إنتقلت هذه الموضة إلى نطاق فيزياء الجسيمات الأولية، واستقرّ الأمر على نظرية الأوتار منذ تسعينات القرن الماضي حتى اليوم
- من الأفضل لك كباحث شاب أن تدخل ميداناً علمياً لايزال فيه ثمة شيء ما لتفعله بدلاً من ولوج نطاق علمي محكوم بسطوة آباء مؤسسين (أو ماصار الرأي السائد يفترض أنهم آباء مؤسسون) ؛ إذ حينها لن تفلت من قبضتهم إلاّ بعد وقت طويل من تقاعدهم أو موتهم !
- الغطرسة العلمية والسطوة الإدارية والإمساك بمفاتيح التمويل الحكومي أو القادم من جهات تمويلية صناعية خاصة حقائق لاينبغي تجاهلها أو القفز فوقها. العلم ليس ممارسة طهرانية بقدر ماهو فاعلية بشرية تؤثر فيها الأهواء والعلاقات الشخصية والسياسات الحكومية التي يرسمها أفراد يجهل معظهم أبسط مفاهيم العلم (الكونغرس الأمريكي مثالاً).
- من الممارسات السيئة في أي مجال علمي، وعلى المستويين الشخصي والجمعي، أن يتمّ إعتماد وجهة نظر شخصية علمية واحدة (الأخ الأكبر الراعي للجميع والموجّه للجميع) بمصداقية ثابتة دوماً. حتى آينشتاين وكبار علماء الفيزياء كانت لهم أخطاؤهم في زمن ما من حياتهم.
- صار من الأمور السائدة في مؤتمرات الفيزياء التي تتناول جهود التوحيد Unificationللقوى الفيزيائية المعروفة عندما تسأل زميلاً لك أو صديقاً أو أحد الحاضرين بشأن رأيه في موضوعة ما أن يجيبك من غير استحياء :» ماذا يظنّ (فلان) من قادة نظرية الأوتار بشأن هذه الموضوعة ؟ «. صرنا كأننا في محفل حزبي يرجع فيه الأعضاء لقادتهم في كل صغيرة وكبيرة. (يضيف سمولن أنه كان يقول لمثل هؤلاء : أنا سألتك عن رأيك أنت بحق السماء ولم أطلب رأي فلان. لو أردتُ أنا رأي فلان لماذا أسألك أنت ؟ ولو أردتَ أنت أن تعرف رأي فلان لماذا لاتسأله أنت ؟)
- بعضُ علماء نظرية الأوتار صاروا يرون أنفسهم أبطال حرب صليبية أكثر من كونهم علماء !
* * * * *
يقدّم سمولن عدداً من المظاهر الأساسية لمثل هذه الجماعة الآيديولوجية المغلقة، وهي تصحُّ في نطاق البحث الفيزيائي مثلما تصحُّ مع الآيديولوجيات الحزبية ذات اللافتات العريضة :
1. الثقة الهائلة بالنفس والتي تؤدي إلى شعور بالحق المطلق في الحصول على الإعتمادات التمويلية والإنتماء إلى جماعة (الصفوة المنتخبة) من العلماء.
2. سيادة شعور راسخ (أقرب للإجماع العام) بصحة وجهة نظر هذه الجماعة المغلقة، مع اتساق مفرط في وجهات نظر الأفراد المنتمين لها، وسطوة أفكار قلة قليلة من القادة فيها.
3. الشعور الرابط للجماعة شبيه بالرابطة الدينية أو الرابطة الناجمة عن التعلق ببيان سياسي تأسيسي لحزب ما.
4. سيادة شعور قوي ومتغطرس بوجود حدود نوعية فاصلة بين أعضاء هذه الجماعة والعلماء الآخرين غير المنتمين لها.
5. الإستخفاف بأفكار الآخرين غير المنتمين للجماعة، وقَصْرُ الأحاديث والمناقشات مع الأفراد داخل الجماعة.
6. التفاؤل المفرط بضرورة نجاح النظرية، وتسخيف كلّ الآراء الأخرى التي لاتتفق معها.
* * * * *
تساءلتُ وأنا أقرأ هذه التفاصيل المثيرة : هل نحنُ إزاء نوعٍ من « الكهنوت الجديد « في الممارسة البحثية ؟ وإذا كان الأمر كذلك في نخبة الجامعات الأمريكية (برنستون، ييل، MIT، بركلي، ستانفورد،،،) فكيف هو الحال لدينا ؛ لكن ربما ليس من المجدي أن نتساءل بشأن حال الفيزياء لدينا لأننا لانشجّع العلوم والبحث الأساسي، ولم نساهم يوماً في كشوفات فيزيائية نظرية (لانظرية أوتار ولاثقالة كمومية ولاسواها)، ولانرى في الجامعات سوى مؤسسات لتخريج حاملي شهادات وليس أكثر من هذا.