TOP

جريدة المدى > عام > الذكاء الاصطناعي والثقافة العامّة

الذكاء الاصطناعي والثقافة العامّة

نشر في: 22 يونيو, 2021: 09:58 م

لطفية الدليمي

الاهتمام العالمي بملاحقة تطوّرات الذكاء الاصطناعي ليس موضة من الموضات المتداولة بل هناك أسباب حقيقية دافعة له ومحفّزة لملاحقته.

أولاً : هناك دافع عملي ناجم عن اهتمام الناس بخارطة الوظائف العالمية الأكثر دخلاً وطلباً من سوق بورصة الوظائف ؛ وبالتالي لابدّ من التمكّن من أساسيات الذكاء الاصطناعي وكلّ المباحث العلمية المصاحبة له منذ وقت مبكّر من حياة الأشخاص، وثانياً : هناك شغف فلسفي وأخلاقي وثقافي في معرفة شكل الحياة التي سيكون الذكاء الاصطناعي العنصر المؤثر فيها في العقود القادمة. ثمّة نقصٌ هائل وقصورٌ معيب في معرفة أساسيات الذكاء الإصطناعي على مستوى الثقافة العامة الكفيلة بخلق تيّار جمعي دافع لتطوير هذا المبحث العلمي على مستوى الدراسات والتقنيات ؛ إذ لازال الذكاء الاصطناعي يدرّسُ على مستوى الدراسة الجامعية ضمن برامج علوم الحاسوب والهندسة البرامجية وبعض الفروع الهندسية (مثل الميكاترونكس) في إطار نظري عتيق وعاجز عن خلق معرفة نشيطة بهذا المبحث الواسع. نعرف أننا لسنا مطوّرين في حقل الذكاء الاصطناعي ؛ لكنّ هذا لاينفي أهمية نشر معرفة أساسية عامة ورصينة به بطريقة تجعلنا بعيدين عن وصف المستهلكين الغشماء الذين لايعرفون سوى استخدام التقنيات المتاحة أمامهم وكأنها « صناديق سوداء « أو « ألعاب حُواة سَحَرَة «.

إذا مااستثنينا معضلة التغيّر المناخي الذي ينبئ بعواقب كارثية على استمرارية الحياة البيولوجية ؛ فإنّ المفاعيل المترتبة على ارتقاء تطبيقات الذكاء الاصطناعي هي المعضلة الأكثر جلباً للاهتمام العالمي على كلّ مستويات الهياكل السياسية والمجتمعية والفكرية، وقد صار من الطبيعي الحديثُ عن قرب حلول متفرّدة تقنية Technological Singularity أو سيادة عصر الخوارزميات Algorithms الفائقة بوتيرة ربما تكون أعظم من الأحاديث الثقافية التي تسيّدت عصر السرديات الفكرية الكبرى (البنيوية وسلالتها من الرؤى الفلسفية مثالاً). أرى أنّ هذا الأمر له تسويغاته المعقولة ؛ فالذكاء الاصطناعي ليس مدرسة فلسفية يناصرها البعض ويعاديها البعض الآخر تبعاً لتوجّهات آيديولوجية أو فكرية محدّدة بل هو تطبيقات مؤثرة صرنا نتعامل معها يومياً – شئنا أم لم نشأ – وعلى أوسع نطاق ؛ ثمّ أنّ الذكاء الاصطناعي هو - قبل كل شيء - مبحث علمي / تقني يتمّ تناوله على أوسع النطاقات البشرية وفي المؤسسات الأكاديمية المرموقة، وصار سلطة مؤثرة في خلق أكبر الثروات في عالمنا المعاصر. لقد جعلت هذه الخصائص من الذكاء الاصطناعي عنصراً فاعلاً في تشكيل نمط حياتنا الحالية والمستقبلية على كلّ المستويات (فكرية وفلسفية وتقنية ومالية) ؛ ومن أجل هذا علينا جميعاً إمتلاك معرفة موثوقة ومعقولة بأساسيات هذا العنصر لنستطيع التعامل مع نتائجه المستقبلية.

هناك العديد من الكتب التي تتعامل مع الأوجه التقنية لمبحث الذكاء الاصطناعي (الشبكات العصبية، تمييز الأنماط، هياكل البيانات والخوارزميات، على سبيل المثال) ؛ لكنّها قليلة حقاً تلك الكتب التي تخاطب القارئ العام لتكوين ثقافة عامّة مؤثرة له. سأتناول هنا كتابيْن أحسبُ أنهما من أفضل الكتب التي تسعى لتشكيل ثقافة عامة – لكنها جادّة – في حقل الذكاء الاصطناعي.

الكتاب الأوّل عنوانه الذكاء الاصطناعي : مايحتاجُ الجميع إلى معرفته Artificial Intelligence : What Everyone Needs to Know، وهو من منشورات جامعة كامبردج عام 2014، ظهرت ترجمته العربية حديثاً. مؤلف الكتاب هو جيري كابلان Jerry Kaplan، الذي يتمتع بخبرات كبيرة على أعلى المؤهلات الأكاديمية إضافة لنجاحه في حقل تأسيس شركات تقنية وريادة الأعمال. من المثير معرفة أنّ كابلان حصل بداية تعليمه الاكاديمي على شهادة البكالوريوس في تأريخ وفلسفة العلم من جامعة شيكاغو عام 1972، ثمّ واصل دراسته في حقل علوم الحاسوب والمعلوماتية في جامعة بنسلفانيا حتى توّجها بالحصول على شهادة الدكتوراه عام 1979. كابلان أحد روّاد الاعمال في قطاع المعلوماتية والذكاء الاصطناعي، وسبق له أن نشر عام 1999 كتاباُ بعنوان شركة ناشئة : مغامرةٌ في وادي السليكون.

كتابُ كابلان الممتع يضمُّ ثمانية فصولٍ كلٌّ منها يضم مجموعة أسئلة يسعى المؤلف للإجابة عنها. يبدأ الكتاب بفصلٍ تمهيدي يتناول تعريفاً (إجرائياً) للذكاء الاصطناعي، وعمادُ هذا الفصل ثلاثة أسئلة : ماهو الذكاء الاصطناعي ؟ هل الذكاء الاصطناعي علمٌ حقيقي ؟ هل يمكن للحاسوب يوماً ما أن يكون أذكى من البشر ؟ وهكذا يمضي المؤلف في تناول بقية الفصول بالهيكلية التفاعلية ذاتها التي تجعل القارئ يعيشُ عالماً سردياً تخييلياً وكأنه يحاورُ حاسوبه الشخصي. يتناول الفصل الثاني تأريخاً فكرياً للذكاء الاصطناعي، وهو فصلٌ وجدته شديد الإمتاع والاثارة، ثمّ يتناول في الفصل الثالث بعضاً من الجبهات المتقدّمة لمباحث الذكاء الاصطناعي ؛ أما الفصل الرابع فيتناول فلسفة الذكاء الاصطناعي، وأرى أنّ هذا الفصل يماثلُ الفصل الثاني في الامتاع والاثارة وسيجد كل عقل شغوف ذي ذائقة فلسفية متعة كبرى في قراءة الاجابات التي أوردها المؤلف للاسئلة الفلسفية التأسيسية في هذا الفصل. يمكن عدّ الفصول الأربعة الأولى بمثابة خارطة فكرية لموضوعة الذكاء الاصطناعي ؛ أما الفصول الباقية فتتناول موضوعات مجتمعية ذات نتائج سياسية / إقتصادية مركّبة : الذكاء الاصطناعي والقانون، تأثير الذكاء الاصطناعي على العمالة البشرية، تأثير الذكاء الاصطناعي على العدالة المجتمعية، بعض التأثيرات المستقبلية المحتملة للذكاء الاصطناعي في موضوعات محدّدة (الأطفال والذكاء الاصطناعي، حلول المتفرّدة التقنية الناشئة بسبب الذكاء الاصطناعي، الذكاء الاصطناعي والصراعات المستقبلية، عالم مابعد الانسانية،،،،،).

الكتاب الآخر هو كتابٌ غير مترجم إلى العربية، ألّفته البروفسورة مارغريت بودِن Margaret Boden الاستاذة المخضرمة ورئيسة قسم العلوم الادراكية والمعلوماتية والذكاء الاصطناعي في جامعة سسّكس البريطانية. الكتاب بعنوان الذكاء الاصطناعي : مقدّمة موجزة وقد نشرته جامعة أكسفورد عام 2019 ضمن سلسلتها الشهيرة من كتب المُقدّمات الموجزة. يحتوي هذا الكتاب على جرعة تقنية وفكرية أعلى من جرعة كتاب كابلان ؛ لكنها تبقى جرعة سائغة المذاق للقاريء الذي يتوفر على شغف حقيقي ورغبة راسخة في معرفة أكثر عمقاً حول الخلفيات الفكرية والفلسفية والتقنية للذكاء الاصطناعي.

جاءت البروفسورة بودن لحقل الذكاء الاصطناعي متسلّحة بخلفيتها الأكاديمية الواسعة في حقل علم النفس المعرفي، ويمكن تحسّس هذا الامر في معاينة عناوين كتبها المنشورة سابقاً، ومنها : عقول وميكانيزمات (1981)، الذكاء الاصطناعي في علم النفس : مقالات مشتبكة الاهتمامات (1989)، العقل الخلّاق : أساطير وآليات (1990)، فلسفة الحياة الذكية (1996)، العقل باعتباره آلة : تأريخ العلم الادراكي – بجزئين – (2006)، والكتاب الأخير يمثل مرجعية عالمية في تأريخ علم النفس الإدراكي.

يضمُّ كتاب بودِن عن الذكاء الاصطناعي مقدّمة وسبعة فصول. يتناول الفصل الأوّل المعنون (ماهو الذكاء الاصطناعي ؟) مقاربة تعريفية ذات طبيعة إجرائية للذكاء الاصطناعي، وهنا يتمّ تمييز الذكاء الاصطناعي إلى ذكاء اصطناعي ضيق Narrow AI وذكاء اصطناعي عام General AI (والذي يكتب في العادة AGI في أدبيات الذكاء الاصطناعي). يتناول الفصل الثاني موضوعة الذكاء على أساس رؤية علم النفس المعرفي، ثمّ تفردُ المؤلفة جزءاً كبيراً من هذا الفصل للبحث عن الكأس المقدّسة في الذكاء الاصطناعي، والمقصود بهذه البحث بلوغ مرحلة الذكاء الاصطناعي العام وخوارزميات التعلّم العميق للآلات، وهذه هي المرحلة التي قد تقود لنشوء متفرّدة تقنية تتقدّم فيها القدرة الآلاتية (الروبوتات) على مقدرات الكائن البشري على الاصعدة المعرفية والذكائية وقدرة معالجة البيانات الضخمة ؛ أما الفصل الثالث فيتناول موضوعات (اللغة، الإبداع، المشاعر) والتي هي في جوهرها موضوعاتٌ تنتمي لحقل علم النفس العام والمعرفي، وواضحٌ أنّ المؤلفة تعمدُ هنا إلى مقاربة توفيقية بين الكائن البشري والآلة، وهذه المقاربة (وكثير من المقاربات المناظرة) هي التي تشكّلُ جوهر اهتمام البروفسورة بودِن. تتناول المؤلفة في الفصل الرابع موضوعة (الشبكات العصبية الذكية)، وتتناول في الفصل الخامس موضوعة (الروبوتات والحياة الذكية)، ثمّ تضع عنواناً للفصل السادس بهيئة سؤال (هل هو ذكاءٌ حقاً ؟) في إشارة إلى الطبيعة الاشكالية للذكاء الاصطناعي واختلافها عن الذكاء الطبيعي. تختتم المؤلفة الكتاب بتناول موضوعة (المتفرّدة) التي يمكن أن تنشأ عن تقدّم تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى حدود قد تأذن بدخولنا عتبة عصر الانسنة الانتقالية مابعد الانسانية والسايبورغات Cyborgs التي هي كائنات بشرية معزّزة بوسائل تقنية عالية التعقيد.

ملاحظتان أودُّ التأكيد عليهما في الختام :

الأولى : هي لاينبغي أنّ يكون الذكاء الاصطناعي لعبة فكرية أو شغفاً يسعى البعض منّا لتوظيفه أكاديمياً أو عملياً للحصول على وظيفة مربحة أو التأسيس لمستقبل مهني واعد في قطاع صناعات المعرفة الذكية التي ستسود المستقبل القريب ؛ بل يتوجّبُ علينا التعامل معه على أساس رؤية مؤكّدة بأنه سيكون القوة العظمى التي ستعيد إعادة رسم خارطة الوجود البشري على كل الاصعدة التفاعلية بين الكائنات البشرية، وبين البشر والطبيعة. الملاحظة الأخرى هي أنّ على الجامعات أن تلعب دورها المجتمعي في إشاعة المعرفة المتاحة لأوسع قطاعات الناس في المجتمع وبخاصة في الحقول الستراتيجية الأكثر تأثيراً في صياغة معالم الوجود البشري المستقبلي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram