حيدر المحسن
النّقد الأدبي جزءٌ من الأدب، إذا انفصل عنه جفّ وذوى، وصار عصْفاً تذروه الرّياح. ولا يوجد نقد قديم وحديث، إنما هناك ناقد لامع وباهت، وآخر لا تستطيع أن تقول عنه أيّ شيء. ومن النقد ما يأتي عرَضا، وقائله يقصد به الذمّ فإذا هو يمدح. كان الشاعر حيدر الحلّي يمتلك الخصوم الذين يجهلون أسرار نبوغه، أو أنهم يعرفونها ولا يغبطون قائلها:
إنّ الوجوه لَكَالزّجاجة تستبين بها الأمورُ
وتشفّ عمّا خلفها فله أبـــــــــــدا بـــــــها ظهـــــــورُ
وإذا القلوب تراسلت فمن اللّحاظ لها سفير
كان النقاد يعيبون على الحلّي أن شعره فارغ من زخارف البديع، ويشبّهونه بالخشب. سُئل «سومرست موم» عن سرّ إبداعه فأجاب: كلّ ما أنجزته سببه واحد، وهو أني تركت التشبيه، وإلى الأبد. والشّعر الذي نعتبره اليوم هو الشعر الخشب، وأصلب من هذا الحديد، والحجر، وتعريف الكلام البليغ هو «ما قلّ وجلّ ودلّ، ولم يُمِلّ أو يُنقص في المعنى”، وهذا خشب وحديد وحجر. عرّف الناقدون الذين عاصروا حيدر الحلّي الشعر الحديث، والنثر الحديث، دون أن يعلموا.
وهناك من النقد المعقّد والعصيّ، وهنالك النقد المستحيل، وهو الذي لا يفهمه أحد، حتى المؤلف. روى لي الصديق سعد محمد رحيم عن نقّاد يكتبون عن رواياته مقالات معقّدة تشبه الطلاسم، فلا يفهمها، وهو الكاتب، فرحمة بالقارئ أخي الناقد الفيلسوف والعالم الجهبذ، فأنت تسير في طريق مهلكة لا محالة لأن لا أحد يفهم عنك، والنهاية المحتومة لكل من يفعل هذا هو العزل عن الناس، مثلما نفعل مع المجرمين والمجانين والمصابين بداءٍ مُعدٍ.
وأسهل أنواع النقد هو الذي شبّهه الراحل عبد الجبار عباس بما يقوم به الدلّالون، عندما يعرضون بضائع في السوق على المشترين أمام الملإِ، وتمتاز اللغة المستعملة هنا بالإيجاز الشديد، والدقة البالغة، ويُؤخذ على هؤلاء التّهاون في مسألة الضمير بين الحين والحين. الناقد الدلّال نابغة في عمله، ولا يفوقه أحد في إثبات الحجّة، أو في نقضها في الحال، حسب ما تتطلّبه ظروف العمل. فإذا تناول كتابا قصصيّا جاء في متن مقالته أن بعض قصص الكتاب طويلة، أو قصيرة، أو متوسّطة الحجم، مثلما يفعل الدلّال وهو يعرض النّاقة، ويبلغ عمرها كذا عدد من السّنين، وقسم من قصص الكتاب جيدة، ومنها غير ذلك، أو بين بين، ولا نعرف نحن معشر القرّاء شيئا عن أسباب الجودة والرّداءة في علم هذا الرجل، وما هو البين بين. فإذا عرض لشاعر ممن ينتمون إلى حزبه، جعل قصائده إحدى السّبع المعلّقات، ويأخذ الدلّال من علم النفس شيئا، ومن علم البيان، ويردف عدّته في النقد من علوم الصّوتيات والبصريّات والاجتماع والاقتصاد والتاريخ والفلسفة، كلّ هذا من أجل إعلاء كلمة يعرف أنها أوطأ ممّا يبلغنا من صرّار الليل، فهذا يبدع الكلام المنغّم، والذي فيه الغاية والمتعة والوسيلة. وإذا كتب الناقد عن الأدب العظيم، كانت المواجهة ارتطاما يخرج منها مشوّه الوجه، ويتعب الدلّال ويجهد، ويتصبّب عرقا، ولا يخرج في النهاية بنتيجة تساوي عُشر ما قام به نقّاد الشّاعر الحلّي، على قلّة تقديرهم للقريض، فهم جاؤونا بالحقيقة مقلوبة، وهذا أعظم بكثير من شغل الدلّال في أكثر عمله.
قال حيدر الحلّي الكثير من الشعر الغزليّ، رغم مكانته الدينية المعروفة، وقد اتّخذ الحرم ومناسك الحجّ مكانا لإحدى موشّحاته:
عَرَفَتْ ناسكةً ذات اللَّمَى فرنت فاتكةً في أضلعي
عجبا راقبت فيها الحرما واستحلّت صبر قلبي الموجع
كم قضت في حجّها من منسك
ما أضاعت فيه إلا نسكي
فلقد عدت بقلب مشرك
عَرَفَتْ: وقفتْ في عرفات. والقصيدة طويلة، ويضمّها ديوان الشاعر.