ناجح المعموري
الحواريات الثقافية والفنية مهمة اذا كانت كاشفة عن قدرات المثقف ومعرِّفة بإمكاناته الثقافية والمعرفية ، لكن الأخيرة قليلة ، اذا لم أقل حاضرة ،
لأن المثقف هارب عن تنوعات الفلسفة والمعرفة ، ليس هو وحده ، بل حتى النقاد الأبرز في الحياة الثقافية العراقية والعربية . فنادراً ما اطلعت على حوار مثل الذي اجراه الأستاذ الناقد الفني علاء المفرجي وأنا سعيد لأنها تمثل مجالاً جوهرياً في ضرورات القراءة المهمة التي تكون خاتمة لقراءات عديدة ومتنوعة ، وهي كما أعتقد افضل خاتمة للقراءة المزدحمة والعديدة لسبب بسيط ، انها تقدم صورة المثقف مكشوفاً ومعلناً عن نفسه ، لا يتستر على مكتوم .
أنا أقرأ كتاب الصديق علاء المفرجي « تاركوا الأثر « الصادر عن دار المدى وهو يفحص أسماء ثقافية وفنية عبر حواراته الذكية ، شعرت بأن بعضهم ترك آثاراً مهمة وليس أثراً الي يعني المجموع أيضاً. ولعل أهم ما في الحوار هي التي ذهبت مع الأسماء ذات الحضور العلمي والفني وكنت سعيد للغاية وأنا أعيد الاقتراب من الأستاذ البارز د. خالد السلطاني، المعماري الشهير وأيضاً المعماري معاذ الآلوسي ولا أستطيع اغفال أو تجاهل الأسماء المهمة بحضورها اليومي في حياتنا الثقافية والفنية، معبرة عن مخزوناتها غير الطبيعية، لأنها ــــ الأسماء ــــ مستجيبة للتغذية اليومية ومنفتحة على الحياة الثقافية والفنية بكل ما تنطوي عليه من تنوعات ، معرفة، لقاءات، شعر، فنون، فلسفة، وأعني بأن الذي توفرت فضاءات حرة ومتنوعة وامكانات القراءة والاطلاع والفحص المباشر. وهم أكثر توفراً على ما يحتاجه كل واحد منهم ، بينما نحن الذين نعيش في بلد تهيمن عليه العمائم، تصحو في فترات قصيرة وتتاح لنا فرصة الاطلاع على معارض الكتب أو اشتراك الكتب المستنسخة. ولابد من إشارة تنطوي على إثارة عيوب الدولة التي لم تستطع منذ إنهيار نظام فاشي، أن توفر ما يحتاجه المثقف من مصادر الاطلاع والتعرف فنهرع لشراء أهم المصادر المستنسخة مع ما يثيره هذا النوع من المصادر وارتفاع أسعارها. لكننا نتوسل بالأصدقاء على توفير ما نحن بحاجة له.
كتاب علاء المفرجي الجديد يختلف عن كتابيه السابقين، وأعتقد بأنه مهم وفيه إلتماعات المغامرة وسحب المثقف للمجازفة واستثمار فرصة الحوار لدخول عيوب الحياة العراقية سياسياً والتي لعبت دوراً مهماً للغاية بإفساد المجالات الثقافية والفنية، وكنت اتمنى على الصديق المفرجي دغدغة مخاوف أدباء الداخل، لأنهم الصوت الحي والحقيقي وهم الشاهد على الخراب والفساد ولابد في هذه الحالة ان يقول المثقف ما يحلم بالإعلان عنه. وهو الكائن المسموع والمقروء ومتابع من أفراد وجماعات هو يعرف أعدادها وتأثيرها. لأن ذهاب الحوار هو ما معلوم ومعروف ومكشوف لا يكون الحذر معه الا عرضاً يقترب من الاشهار الصحفي وتكرار التوثيق من خلال معلومات معرفة لنا، نحن الذين في الداخل وحتى الذين بالخارج اقرب لهم مما هم عليه بالعلاقة معنا. وأظن بأن وجود عدد قليل من أدباء الداخل أحد الاسباب التي ادت الى هذا العدد القليل منهم.
لكني لابد من المرور للأسماء الابداعية التي تحاور معها المفرجي كانت هادئة، تتحدث بشيء من الحذر والرتابة ودغدغة ملامحهم في الكتابة الجديدة بمجال السرد على سبيل المثال والفن، وأستطيع أن أتحدث عن أهم التجارب الثقافية في الوسط الثقافي وكيف وظف الحوار معه وتسلل لمجالات معرفية، ناقلاً انشغاله بسياسة المعرفة، وإجتماع الثقافة والفن وسوسيولوجية السرد وأعني الصديق سعد محمد رحيم الروائي والمفكر الشجاع والجريء والذي ترك آثارا ستظل حاضرة ومؤثرة بالخزان الثقافي الوطني، وهو المثقف الذي قال: في حوار قبل وفاته : أنا صياد مشاهد ومواقف وفرص ، ولا بأس في أن تكون الفريسة جيدة. هذا الكلام متستر ومكشوف لمن يعرف شخصية سعد محمد رحيم وما يتمتع به من تنوعات ثقافية، وأجد من ضرورة لاستذكاره بما يليق ويستحق لأنه ما زال حاضراً لمن اقترب منه جيداً. فسعد روائي مبدع ومفكر وهذا ما قلته بحضوره بجلسة احتفاء به، هو أكثرنا شجاعة وفطنة وحماس لمراقبة فكر النهضة والتنوير، لذا زرع كثيراً وفاض على حياتنا بالكثير وما قاله استهلالاً لحواره هو مجاز، أعلن من خلاله عن المغامرات الكثيرة والصراعات الثقافية التي قادها وسجل له حضوراً ليس عندما كان حياً بل والآن وفي ما سيأتي من أزمنة. الحوار معه مختلف ومنفتح بينما الآخر وهو متعدد في الكتاب، لم يقل جديداً، ومختلفاً عن الحوارات التي كانت من قبل مثل هذا مضاعة للوقت ... لا نختلف اذا قلنا بأن المبدع المكتفي بحكاياته لن يظل عقله ساكناً .
هذا ما يجب أن يكون عليه المثقف الحقيقي، لكن المتبدّي عكس ذلك، لأن الحكواتي غير ماهر، وعليه أن يظفر مثلما حصل في تجربة سعد محمد رحيم الذي يستحق في الذهاب معه الى فضاء أوسع وهو ما يريد الاشارة الصريحة لأهتمامه بالأجتماع والعلوم السياسية والفلسفة وأسئلة المثقف والثقافة. كل هذا قاله بشهادته المختزلة قبل الحوار، لكنه صرح بذلك عبر حواره الطويل . وهو يؤكد على وظيفته السردية المهمة، لكنه لا يتنكر لما أشرت أنا له « في أثناء الكتابة الروائية يبقى الروائي الذي في داخلي يقظاً .... وأعد نفسي روائياً يغامر أحياناً في منطقة النقد أو الفكر والفلسفة ... وكتاباتي نتاج تفاعل مع الواقع ومع قراءاتي .... وتحدثت كثيراً عن فكر التنوير الذي باعتقادي هو بأقانيمه الكبرى. العقلانية والحرية والتقدم أساس للخروج من مأزقنا الوجودي والواقعي، على أن نفهمه في إطار سياقنا التاريخي. ولا أرى في انشغالي هذه عائقاً أمام تجربتي الأدبية ... بالعكس فالفكر والفلسفة مصادر إثراء لا غنى عنها لحقل السرد . وأنا واثق بأن سعد محمد رحيم هو الروائي الوحيد الذي خاض بالسرد بوعي مثلما انغمر بالعقل وتمظهراته المعرفية وحضوره بشكل مثير لأصحاب التخصص تعبيرا عن وعي وذكاء ولم يكن هرباً. لأنه صاحب مشاريع سردية مستمرة . يعيش السرد حياة له ويتنفس مع الثقافة والفلسفة .
هذا كتاب مهم جداً ، ومثير بما يحفزه ، لأنه ينطوي على فواعل، سببها التنوع ولابد من الاقتراب منه أن يذهب عميقاً. وأعتقد بأن ما قاله الأستاذ سهيل سامي نادر والحوار مع مظفر النواب وخالد السلطاني ومعاذ الالوسي ، يستدعي منا قراءة ما هو كامن فيه وهذا المغيب هو الجوهري والكتابة معلنة عنه بهدوء لذا انا اعتقد بأن الحوار الثقافي وما اطلعنا عليه مترجماً كان وظل معتنياً بالثقافة والعلوم الانسانية والفلسفة ... لذا اتمنى ان تتخذ الحوارات تمركزاً مثل المرآة ، تعلن عن غنى العقل وليس واحديته. المعروف يفقد تأثيره، لأن طاقة الحضور ضئيلة. لي عودة ثانية لكتاب الصديق علاء المفرجي مضطراً لذلك بسبب وفرة الفضاء لكني أؤكد ثانية على اهمية الحوار مع المثقف ، لأنه مصدر حيوي لمعرفته والتوصل لكشوف عنه والاقتراب لعناصر مكوناته اخيرا أثر الذكورة كثير .. وآثار الانوثة قليلة .. لماذا ؟