لطفية الدليمي
يحلم معظم الآباء أن يصبح أبناؤهم أطباء مشهورين أو مهندسين بارعين يكسبون ثروات كبيرة تؤهلهم ليحتلوا موقعا مرموقا لم يتحقق لآبائهم أو أنهم حققوه ويفرضون مثيله على أولادهم وبناتهم ،
دون الأخذ بنظرالاعتبار شغف الأبناء وتوقهم الثقافي والعلمي والفني وأحلامهم المغايرة لأحلام الآباء ونظرتهم العتيقة لتصنيع الثروة، فيرغمون الإبن أو الإبنة على الكدّ في الدراسة للحصول على معدلات عالية تستدعيها تلك التخصصات ؛ فيقتلون شغف الأبناء ويستخفون بشخصياتهم ويحقرون من شأن مواهبهم الفنية البازغة في عقولهم الفتية.
تضع الدولة العصرية التي تسهم في صنع حضارة كوكبنا، عناصر الثقافة المختلفة في طليعة اهتماماتها وعلى نحو متوازن مع العلوم النظرية والتطبيقية ، ولايختلف الأمر لديها بين رعاية فتى موهوب في الموسيقى مع آخر شغوف بالكيمياء أو الفيزياء أو الرياضيات وعلوم الفضاء ، أو آخر لديه عبقرية مبكرة في النحت والرسم ، فهؤلاء جميعا يشكلون البنيان الحقيقي والمتماسك لوجه لحضارة البشرية المضيء على مرّ العصور، غير أن الاهتمام بعبقرية الموسيقي الشاب قد يتقدم على سواه لإيمان تلك الدول ومؤسساتها الراسخة بدور الموسيقى في تحقيق التوازن النفسي وتحفيز المخيلة وإسعاد البشر والارتقاء بحياتهم ، فكم من مهندس وطبيب - على أهمية أدوارهم في خدمة الانسانية – كانوا معاصرين لبيتهوفن أو موتزارت لم تنقل لنا أدبيات القرون الماضيات الكثير عنهم ؟
طوال عصر النهضة وماتلاه من عصور التنوير لم تترسخ في ذاكرة الشعوب غيرأسماء لامعة لمبدعين أفذاذ: الموسيقار العظيم بيتهوفن صاحب السيمفونية الثالثة والخامسة والتاسعة والسونيتات العظيمة ، موتزارت مؤلف اشهر السمفونيات والاوبرات الخالدة ، شوبان الموسيقار الرومانسي ،وفيفالدي صاحب الفصول الاربعة ، وفرانز ليست مبدع الرابسوديات المدهشة ، ومثلهم عباقرة الفنون: ليوناردو دافنشي ورافائيل ومايكل انجلو وباناروتي ورمبرانت ومونيه وفان كوخ وغيرهم ، وأسماء عباقرة الأدب والفكر:سرفانتس ودانتي وشكسبير وغوته وبلزاك وشيللر وديكنز ودوستويفسكي وتولستوي وفيكتور هوغو وابن حزم والمتنبي وإبن خلدون وابن سينا وسواهم ، أذكر هذا وفي بالي رسالة وجهتها جهات التربية والتعليم الألمانية الى الآباء بمناسبة الامتحانات وإعلان نتائجها تقول الرسالة بما معناه :
الآباء والأمهات الأعزاء
قريباً سيتلقى أطفالكم شهاداتهم المدرسية. نعلم أنكم جميعًا تأملون أن يعود أولادكم وقد نالوا درجات جيدة إلى المنزل. نرجوكم أن تتذكروا أنه من بين الطلاب، سيكون هناك فنان مستقبلي ليس عليه أن يفهم الرياضيات ومن بينهم رجل أعمال لا يعنيه باريخ الأدب الإنجليزي . من بينهم الموسيقي الذي لا تهمه درجة الكيمياء. إذا حصل طفلك على درجات جيدة، فهذا أمر رائع. وإذا لم يحصل ، فالرجاء عدم سلبه احترامه لذاته وكرامته.
أخبر طفلك أنه بخير. أنها مجرد شهادة. طفلك مهيأ لأشياء أكبر في الحياة. أخبر طفلك أنك ستحبه ولن تحكم عليه بصرف النظر عن الدرجات التي يتلقاها. سترى كيف سيحتل طفلك مكانته في العالم. درجات سيئة لن تحرمه من إبداع شغفه ومكانته في الحياة. ونرجوكم ألا تصدقوا أن الأطباء والمهندسين هم الأشخاص السعداء الوحيدون في العالم. )
كم من الآباء في مجتمعاتنا سيرحبون بمثل هذه الرسالة الواقعية التي تنبه إلى أهمية أحترام الشغف والميول الفردية لأبنائهم من جهة وأهمية التخصصات العلمية والثقافية المختلفة ودورها في الارتقاء بالمجتمعات الحية ، فلم يعد تخليق الثروة منحصرا بعمل الطبيب والمهندس حسب ، فقد نشأت اليوم مع الثورة التقنية تخصصات جديدة ستكون هي المؤهلة لتصنيع الثروات الكبرى في عالم يسوده العلم وتتحكم فيه التقنيات الفائقة.