TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > تلويحة المدى ..المُستحمّات فـي ينابيع عشتار

تلويحة المدى ..المُستحمّات فـي ينابيع عشتار

نشر في: 28 مايو, 2010: 05:09 م

 شاكر لعيبيلا يغدو الاستحمام قبل الزفاف فعلاً شخصياً من الأفعال اليومية المعتادة، بل يمكن القول إن الإعلان الصارخ عنه أمام الجميع يصير شعيرة عُرْفية، شبه ثابتة، في جميع احتفالات الأعراس العربية الحالية، كأنه يستمدّ جذره العميق، عبر إشهار طقسي كهذا،
من نزعة التطهُّر الرافدينيّة بالماء، وهو يُضفي على العرسان روحاً قُدْسيّاً وعلى الفعل الذي سينجم عن اتحادهما الجنسيّ دفقاً من المُبارَكة. لا تنقص البراهين على ذلك، سواء في كلمات الأغاني المُرافِقة للخروج من الحمّامات التي تسبق العرس أو في أثناء الطقوس التي تلحق الخروج مباشرة من الحمّام العرسيّ (ليلة الحناء، والجلوة)، وجلها يُصْدَح بها على ألسنة النساء.إذا ما شهدت طقوس التطهُّر بالماء في الممارسات الدينية والاجتماعية الموصوفة بعداً روحياً صافياً، فإن طقوس الاستحمام العرسيّ تستحضر أيضاً بعداً إيروتيكياً صافياَ رغم اللبوس الدينيّ الظاهريّ المُخادِع المُحاط بها.من بين النصوص التي حفظتها المدوّنة التراثية العربية بشأن الجلوة نص رحلة ابن بطوطة (1325م) التي يذكر فيها أعراس ولد الملك الظاهر: "وشاهدت يوم الجلوة، فرأيتهم قد نصبوا في وسط المشور  منبراً كبيراً، وكسوه بثياب الحرير. وجاءت العروس من داخل القصر على قدميها بادية الوجه، ومعها نحو أربعين من الخواتين، يرفعن أذيالها، من نساء السلطان وأمرائه ووزرائه، وكلهن باديات الوجوه، ينظر إليهن كلّ من حضر من رفيع أو وضيع. وليست تلك عادة لهنَّ إلا في الأعراس خاصة. وصعدتِ العروس المنبر ، وبين يديها أهل الطرب رجالاً ونساء، يلعبون ويغنون. ثم جاء الزوج على فيل مزين، على ظهره سرير وفوقه قبة شبيه البوجة، والتاج على رأس العروس المذكور، عن يمينه ويساره نحو مائة من أبناء الملوك والأمراء، قد لبسوا البياض وركبوا الخيل المزينة، وعلى رؤوسهم الشواشي  المرصَّعة، وهم أتراب العروس ليس فيهم ذو لحية. ونثرت الدنانير والدراهم على الناس عند دخوله. وقعد السلطان بمنظرةٍ له....".إن جوهر "الجلوة" يقوم على أساس جَلْيِ العروس أي تزيينها بعد الاستحمام، ثم عرض جمالها للجمهور (أحيانا للنساء فقط). والمفردة مستخدمة في جميع البلدان العربية تقريباً بهذا المعنى عينه. في الجلي والعرض ثمة من دون شك بعد مسرحيّ، أي طقسيّ، يستهدف فكرتي الإشهار على رؤوس الإشهاد بأن الفعل الجنسي الذي سيقع بعد قليل في غرفة مغلقة قد تمّ بطريقة مشروعة، ثم فكرة إنجاز الفعل عبر كينونةٍ مكتملة مادياً، جميلة ومرغوبة حسيّاً، وليست من عوالم القبح غير المُشتهَى بحال من الأحوال. بينما ليلة الحناء فهي تسبق أو ترافق الجلوة، وتقع في تزيين أطراف العروس، بعد أن استحمّتْ، بنقوش وزخارف مصنوعة من عجين الحناء. لذا نجد أن التحْنية- لو صحَّ لنا استخدام الاشتقاق- عنصر ملازم بالتمام لاستحمام العروس. هذه الليلة تُنجز كذلك وفق حالة طقسية لأنها تتمة منطقية للفكرتين السابقتين وفيها تقع عملية إضفاء علامات زخرفية على بعض أطراف الجسد لكي تبرز مفاتنه وتُصَعَّد بالتالي الرغبة به.في منطقة الخليج والبحرين المأخوذة، كما تبرهن الأعراف السائدة فيها، مثالاً على ما بقي من التقاليد الرافدينية القديمة مثلها في ذلك مثل بلاد الشام، يُخصّص يوم من أيام الأسبوع لإقامة (الجلوة)، وتدعى لهذا اليوم بعض النسوة المتخصصات اللواتي يُطلق على رئيستهن لقب (المْطَوْعَة) وهي التي تنشد أبياتا شعرية تعدّد فيها مفاتن العروس. وهذا تقليد آخر ضارب في القِدَم حسب الحفريات الأثرية والنصوص والمنطق الاستدلالي. تجلس المُحتفى بها على مساند مرتفعة، وهو دليل رمزي عشتاري، واضعة كفيها على ركبتيها حيث تقوم المحتفلات برفع شال أخضر اللون مزخرف بخيوط الذهب، يطلق عليه "المشمر" فوق رأسها، وهُنَّ يمسكن بأطرافه الأربعة، ويبدأن واقفاتٍ بتحريك الرداء من الأعلى إلى الأسفل، بينما تقوم المطوعة بتغطية العروس بسبعة أقمشة ملّونة، وهو رقم سحريّ قديم. إن طقس تغطية العروس برداء قماشي وتحريكه هي شعيرة يمكن العثور عليها حرفياً في النص الشعريّ الرافدينيّ الذي يذكر لنا بأن:"....عشتار السعيدة تكتسي بالحب.مثقلة بالحيوية والسحر والشهوانية.شفتاها تقطران عسلاً، الحياة في فمها.عند ظهورها يتفجّر السرور.هي المجيدة حيث الحجابات مرمية على رأسها .رائعة أوصافها ، عيناها برّاقتان..".إن البيت الشعريّ "هي المجيدة حيث الحجابات مرمية على رأسها" يسمح بالتساؤل عمّا إذا كانت عرائس بلاد الرافدين، المحتفل بهنَّ، مرموزاً لهنّ بعشتار، يُغَطَّيْنَ، مثلما هو الحال اليوم، بالأقمشة والحجابات. هذا التفصيل العرضيّ في النص جدّ حيويّ من أجل فهم استمرارية النص مثلما استمرارية الطقوس في راهن العالم العربي.ومما لا شك فيه ان تزيين عشتار يَرِدُ كثيراً في النص القديم. "عند ظهورها" يقول النص الرافديني، وهذا يُذكِّرنا من جهةٍ أخرى وبوضوح بـ "تصدير" العروس في الخليج مثلاً ، وهو ظهور منتظَر من طرف الجمهور بعد احتجاب، ثم جلوسها على (فراش = دوشق) أخضر مذهَّب غالباً ووضع قدميها على (تكية) أي وسا

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram