طالب عبد العزيز
لم تبدأ عين كاميرا الصحفي البولندي الذي كان يصوّر فيلماً عن البصرة، قبل أشهر من التاريخ هذا من مبنى المتحف، الذي يقع عند النهاية الضيقة للنهر، إنما ابتدأ من النهر ذاته، فجاءت الصورة صادمة له.
فعلب المياه الفارغة وإطارات السيارات القديمة مع اكوان النفايات الملقاة فيه كانت هي الصورة الاولى في الفيلم ، ويبدو أنَّ احدهم قال له بأن البصرة كانت تسمى فينيسيا الشرق فنطقها متهكما. ولم يكتف بالعبارة هذه، إنما قال بان البصرة هي الاغنى بين مدن الشرق الاوسط بالنفط قالها بازدراء طبعاً، مع شعور غامض لم أفهمه.
ومن باب خشب جميلة، بل، باذخة الجمال، وبدهان لامع يوحي بجملة مباهج غابرة دخل مبنى يقع على النهر المزدرى، فانفتح امامه بهو البيت، الذي كان لأحد باشوات بصرة نهاية القرن التاسع عشر، الأرض المفروشة بالطابوق البغدادي، المرشوش بالماء تواً، وأعمدة الخشب مطلية ناعمة، والشرفات الشناشيل بزجاجها الملون، وصور ورسومات الباشوات على الحيطان تحيل العين الى الازمنة الغابرة، وبما يؤسطر ويشي بالكثير من الجمال. كانت عين كاميرا الصحفي تتحرك بحرية وترفٍ فكري واضح، فلا تقع إلا على ما هو باذخ وطري. لا أعرف كيف واءم بين المشهدين، اللذين لا تفصل بينهما سوى بضعة أمتار، بضعة أزمنة(النهر القذر والمبنى الجميل الذي عليه(.
يقول خبرٌ مصدره وثائق الدوائر المعنية في المدينة .. بأنَّ منظمة اليونسكو باشرت مطلع السنة هذه، وبالتعاون مع وزارة الثقافة والسياحة والاثار بإعادة اعمار عدد من البيوت التراثية في البصرة القديمة، بينها دار الشيخ خزعل الكعبي، ودار عائلة النقيب، ودار عبداللطيف المنديل، ودار عبدالسلام المناصير، ودار الوالي العثماني، ومعها مقطع من نهر العشار، المار في المنطقة التراثية، وسيشمل في مراحله اللاحقة دوراً أخرى في منطقة نظران والبصرة القديمة وقرابة مئة وخمسين داراً من الدور التراثية المسجلة».
يترك الصحفي بيوت الشناشيل، ويحاول دخول كنيسة الارمن، التي مضى على بنائها أكثر من 300 سنة، كان الباب مغلقاً، وقد حاول مرافقه إيجاد طريقة للدخول لكنه لم يفلح. تذكرت دقات ناقوسها وهي تملأ الفضاء أيام الآحاد، قبل أو عقيب خروجنا من متوسطة النضال، التي نعبرها من جسر غربان، كانت قريبة منها، تذكرت النساء الارمنيات السمينات، الملفعات بالاسود والابيض، وهنَّ يخرجن من بابها ذي الدهان اللاصف، الذي استعصى على الصحفي البولندي، الذي طوى آلته مغادراً الى جهة اخرى في المدينة، وها هي كاميرته تتجول في جزيرة السندباد، ترى من أغراه بالمكان؟ وكيف إطمأن على روحه هناك، وسط عشرات المنازل العشوائية، وبين قطعان الابقار والجاموس التي تتخذ منها حظيرة ومراحاً.
برأيي فأن البصرة أكبر مدينة خادعة في العالم. فصورتها التاريخية أوقعت الكثير، ففي نهاية السبعينات كانت خدعت سورانك، أستاذ الأدب الانجليزي، البريطاني من أصول هندية وجاءت به الى جامعتها، مأخوذاً بما قرأه في الليالي العربية عن سندبادها البحري، مثلما أغرت المئات من الكتاب والشعراء والصحفيين العرب والاجانب، الذين وقعوا ضحية كتب الحسن البصري والفراهيدي والجاحظ وقصائد بشار بن برد وجرير والفرزدق والسياب والبريكان وبصرياثا محمد خضير. هل أقول بأن المدينة كذبة تاريخية؟