اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كلامٌ عاديٌّ جداً: النثر الخشب

كلامٌ عاديٌّ جداً: النثر الخشب

نشر في: 29 يونيو, 2021: 10:24 م

 حيدر المحسن

من كتاب «حلية المحاضرة في صناعة الشّعر» لمحمد بن الحسن بن المظفر الحاتمي (المتوفّى سنة 388 هجرية):

«المنثور مطلق من عقال القوافي، فإذا صفا جوهره وطاب عنصره ولطفت استعارته ورشقت عبارته كاد يساوي المنظوم».

وعن الفيلسوف الفارابي: «... فيحدث عندئذ الاستعارات والمجازات والتجوز بلفظ ما بلفظ المعنى الذي يتلوه... فيبتدئ حين ذلك أن تحدث الخطبية أولا ثم الشعريّة قليلا قليلا”.

فالاثنان -الشعر والنثر- إذن من جبلّة واحدة، وعندما تلطف الاستعارة، وهذا هو مفصل الكلام، وعندما يجوز قول الشيء بمعنى الشيء الذي يتلوه، أي الأقرب إليه، وهو تأكيد على شرط الحاتمي بقوله «لطفت استعارته»، فإذا كان التشبيه بعيدا أو منافيا للذوق كان الحلّ منه أرحم للكاتب والقارئ والناقد، أجمعين؛ ملاحظة: لا أفرّق كثيرا في حقيقة الأمر بين الاستعارة والتّشبيه، والفروق التي يضعها البلاغيون مملّة ولا تفيد أحداً بشيء. رغم أن الأدب هو الفن اللاّمحدود، لا يمكننا جعله يعاني من مخاض نماء قهري بكتابات لا تُقرأ في مكان غير قاعة الدرس.

يجب أن يكون هناك شيء مبهج للمخيلة في فن الاستعارة، لأن الخيال يعلّمنا أكثر مما يعلمنا الواقع. ما دلالة وصف الكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا للشمس بأنها “أشبه ببصقة هائلة صفراء”؟ ثم تقلب خمس صفحات من الكتاب نفسه، وهو رسائل الصحراء، وترى صورة ثلاثية الأبعاد يرسمها مورافيا لأسرة مكوّنة من أم وابنة وابن:

«الأم الصارمة الملامح والشّبيهة بفزّاعة هائلة الجرم، وابنتها المكتنزة السّمينة بضفيرتها ونظّارتيها ووجهها الذي غطّته الدمامل، وابن مصاب بضعف الأعصاب لا يكفّ عن صنع الإيماءات بوجهه».

لاحظوا معي كيف بلغتنا حياة هذه الأسرة البائسة -يدعوها مورافيا بالأسرة الملعونة- بكلمات قليلة خالية من أيّ تشبيه، وهو مثال عمّا نسميه بالنثر الخشب، وهنالك النثر الحديد، والحجر الجلمود الأصمّ الصلد.

قال فلوبير: «يجب ألاّ نتوقف عن الكتابة والتأليف لأننا حين نتوقف ولا نفعل شيئا، نفكّر في أنفسنا، وانطلاقا من ذلك فنحن مرضى أو أننا سنجد أنفسنا كذلك، والنتيجة في النهاية واحدة».

وكان تشيخوف يقول: “أنا لا أفهم في النقد غير: يعجبني أو لا يعجبني” مختصرا بهذا صفحات وصفحات طويلة وعريضة من مملول الكلام، ولو كان للنثر الحديث أمّ وأب لكان تشيخوف هو الاثنين معا.

وأكبر عالم في النقد، في رأيي، هو ذلك الشيخ الذي قدّمته لنا مجلة ألف باء في تسعينات القرن الماضي، وكانت المجاعة فُرِضت بقرار أمميّ على أهل العلم والأدب في بلاد الرافدين، ولم يجد الرجل دواء لمرضه الذي أفقده القدرة على الحركة والكلام، فاضطرّ أهل بيته إلى بيع كتبه، وكانوا يضعون يدهم على أحدها، فيهزّ الشيخ رأسه رافضا بقوّة، فتعبر اليد إلى مؤلّفٍ آخر، وكان سكون الشّيخ دلالة على موافقته على أمر البيع. عدم التسليم ببيع الكتاب هو عمل نقديّ في نهاية الأمر، وهو مثال حيّ لما يقوم به الناس كلّ يوم، بصورة أو بأخرى. فترتيب الكتب على رفوف المكتبة، والعبارة للشاعر بورخيس، هو عمل نقديّ أيضا.

سأل صحافيّ أديبا صديقا لي ما الكتاب الذي يختاره لو أنهم نفوه إلى جزيرة نائية، أجابهم: أختار روايات دوستويفسكي، وقلت له سألوك عن مؤلّف واحد وأجبتهم عن عشرين، بل أكثر. لو كنت مكانك لما تردّدت في اختيار كتاب “القصص” لفؤاد التّكرلي الصادر عن مؤسسة المدى.

والأدب العظيم بيّن مثل الحلال من الحرام. مثل هندي: لا يصبح الغراب بجعة ما إن نضعه على سطح الماء، وكذلك النثر الرّديء لا يصير خشبا وحديدا وحجرا لو أنك تكلّمت عنه بفاخر النّقد سنين عددا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram