لطفية الدليمي
تأسرني كثيراً الأمثولة الإنجيلية التي تحكي عن الثري الغبي : رجلٌ إغتنى فجلس أمام مائدة طعام حافلة وهو يخاطب نفسه : كلي يانفسي وتنعّمي بما أتيح لك من اللذائذ. هنا نحنُ أمام لحظة مفصلية مشحونة بدراما مكثفة؛ إذ يتعالى صوتٌ يخاطب هذا الرجل : أيها الغبي، اليوم تُخْطَفُ روحك.
قد يرى البعض في هذه الأمثولة الدرامية تبخيساً لقيمة المال؛ لكنّ الأمر سيختلف عندما نقرأ النص أعلاه مدفوعين بنظرة تأويلية غالباً مانلجأ إليها ونحنُ نقرأ كثيراً من نصوص كلاسيكية أو حديثة (النصوص الشكسبيرية مثلاً). المقاربة التأويلية تخبرنا خطل بعض البشر حين يعمدون لوضع كلّ بيضهم في سلّة (لحظة راهنة) فتعمى بصائرهم عن رؤية منافذ وإمكانات أخرى للعيش يزخر بها عالمنا.
مثال الثري الغبي ثمة ثقافة الجشع والتغالب التي شاعت في مجتمعنا ويمارسها الكثير من سارقي العراق المحدثين : أولئك الذين يتناولون العشاء وهُمْ يتشمّمون رائحة المال السائل الذي سرقوه من دم البلاد، أو في الأقلّ يعمدون لمراجعة (جردة حساب) بالمال الذي دخل حساباتهم المصرفية التي لايكون فيها المال مرئياً. فهو هنا يستعبدهم أشبه بالهيروين أو أي مخدّر قاتل يدمنونه. ينغمس هؤلاء اللصوص في لعبة ممتدة لن يشعروا معها بهناءة البال إلا إذا تعاظم رصيدهم المالي يومياً ؛ وهنا يمكننا أن ندرك حجم الخطورة التي ارتهنت مستقبل العراق فصارَ رهينة بأيدي كائنات طفيلية تستمرئ السرقة وترى في مراكمة المال المسروق ممارسة واجبة لثقافة الفوز والغلبة التي ترمم خواء عقولهم، وليس هناك من سبيل لوقف هذه الممارسات بغير تطبيق حقيقي وعادل للقوانين، فأمثالهم لن يكفّوا عن سلوكهم المخزي إلّا إذا نالوا عقابهم المستحق.
ماالذي يبغيه الواحد من هؤلاء الجشعين ؟ هل يريدُ مزيدا من القصور؟ هل يريد تناول الكافيار كلّ يوم ؟ هل يريدُ مجموعة من سيارات فيراري ولامبورغيني ؟ كل ماكانوا يريدونه ويتشهونه في أحلامهم حصلوا على أضعافه في صدفة غبية من زمن حسبه الأمريكان في مراكز بحوثهم فقرروا أن تسليم العراق لهؤلاء هو الوسيلة المناسبة لتعويق هذا البلد وتحطيمه بأيدي أناسٍ جشعين غلاظ القلوب لاتعرف الرحمة بالعراق وأبنائه سبيلا إلى قلوبهم المتحجرة.
تكمن معضلة هؤلاء (المعوزين فكرياً) أنّ معنى الحياة عندهم يتحدد بالمال وحده، ولايتعدّى الأمر بالنسبة لهم غير وضع اليد على المال العام الذي خصص للارتقاء بالبلاد، لايفهمون معنى قيادة بلد ليكون طلائعياً في المنطقة وبخاصة وهو يمتلك الكثير من المقوّمات التي تؤهله ليكون بلداً ريادياً مرموقا، وإذا ماوضعنا في حسابنا معرفتهم بأنهم طارئون سيغادرون العراق لامحالة بعد أن ينجزوا مهمة إفراغه من مقوّمات قدرته المالية وإهدار إمكاناته البشرية؛ فسنعرفُ حجم الجشع الذي يتفاعل في نفوسهم. (إملأ خزائنك من المال بأكثر مااستطعت ثم غادر السفينة المثقوبة) : هذا هو شعارهم المضمر الذي لفرط انفضاحه صار شعاراً معلناً لثقافة التغالب والنهب.
إذا كان الثري في الأمثولة أعلاه غبياً لأنّه أراد عيش اللحظة الراهنة المتخمة بالمال والجشع وكأنّه مخلّدٌ رغما عن قدره المرسوم ؛ فإنّ سارقي العراق أكثر غباءً منه. ترى، هل يحسبون أنفسهم أكثر ذكاء من أسيادهم وأولياء نعمتهم ؟ لاأحسبُ أنّ الأسياد سيتركون شيئاً لصبيانهم بعد أن يدعوهم يتساقطون تباعاً مثل أوراق الخريف.
لاتحسبْ نفسك ذكياً أيها الغبي، وستعرف بعد حين أنك لستَ سوى لص تافه لم تعلّم نفسك شيئاً ذا شأنٍ وقيمة في هذه الحياة، وفضّلت العيش في أوكار عفنة، وإليها ستعود بلا كرامة عندما يحين يوم الحساب القادم لامحالة.