عبد الكريم يحيى الزيباريثلاث مقالات عن روايةٍ واحدة، أغرتني بالكتابة، لاعتقادها بأنَّها أمسكت بالآيديولوجيا في حالة تلبُّس، لكن المقالات وقعت في الذي كانت منهُ تحاذرُ، إذْ تصف الرواية، بالارتكاز إلى "الآيديولوجية"، لم تشعر بأنَّها هي تفعل ذلك أيضاً،
ومن مأمنهِ يؤتى الحذرُ، لأنَّ دعاوى المفكرين والأدباء والفنانين ونصوصهم ضد الظلم الاجتماعي، وشتى أنواع التمييز العنصري، لا تكاد تخلو من آيديولوجيا يوتيوبية، فيصفون الجيش باعتباره "الأبكم الأعظم" لأنَّه وهو يقصف المنازل الآمنة لا يسمع صرخات الأطفال، والنساء والشيوخ، وتوخولسكي يقول "الجنود قتلة" وهاروكي موراكامي يقول(استخلصَ هوشينو ليس للمرة الأولى في حياته أنَّ الشرطة مجرد عصابة تأخذ أجراً من الحكومة/ كافكا على الشاطئ- ت: إيمان حرز الله- المركز الثقافي العربي- 2007- بيروت- ص592). ويقول جان جينيه(أرجو أن لا يتغير العالم حتى يمكنني دائماً أنْ أقف ضده). وإذا كان لا يمكن للمستقبل أنْ يتخلَّص من حضور الماضي والحاضر في جوهره، وإذا لم يكن بمقدور عجلة التفكير أنْ تدور بعيداً عن تأثيرات الماضي والحاضر، سوف نظلُّ رهن الإطار الآيديولوجي الضيِّق. وكان ألتوسير يعتقد جازماً(أنَّ أدلجة الماركسية عملٌ مناقضٌ لها، وكفيلٌ بجعلها معتقداً جامداً غير قابل للتطور)إبراهيم العريس- لغة الذات والحداثة الدائمة- المدى- 2006- ص38. بعنوان "الإنصات في الخطاب الروائي" كتب عبدالكريم العبيدي في جريدة الصباح عدد 1693 بتاريخ 4/6/2009(يفتتح المعجم الوجداني رواية "كولستان والليل" للروائي حسن سليفاني ويختمها أيضا. وتغدو ثيمة الحب بين "دلشاد" الحبيب الغائب وكولستانته الولهة والمشتعلة حبا في انتظاره سندا حكائيا متوهجا تبحث فيه الذات عن نصفها الثاني داخل منظومة يغمر العشق كل حمولاتها من وقائع أو مذكرات أو أشتات أحلام). وفي نهاية المقال يقول("كولستان والليل" همسات كردية جميلة تدين الحروب وويلاتها، ولكنها تفترش معاناة "الأقليات" حلما ووجهة نظر مؤدلجة لا يسع المتلقي الناضج سوى احترامها). وبتاريخ 8/3/2010 عادَ عبدالكريم العبيدي إلى رواية "كولستان والليل" ليكتب تحت عنوان (الخطاب الروائي الكردي ومساوئ الأدلجة) (في رواية "كولستان والليل" يفتتح الكاتب حسن سليفاني معجمه الوجداني بسحرية خداعة لاغواء المتلقي واصطياده بشباك منظمة خاضعة لخطاب آيديولوجي صرف). وكتبت خالدة خليل تحت عنوان "كولستان والليل رواية تطوّع الفن للآيديولوجيا" في جريدة الزمان عدد 3595 في 17/5/2010 حيث تقول في البداية (وتقدم الرواية أنموذجا واضحا لدخول الآيديولوجيا في النسيج الروائي وتماهيها فيه). ثمَّ تقول(أخيرا إن رواية "كولستان والليل" تدوينة كوردية إضافية تعبر عن معاناة الكورد وارض كوردستان، ونموذج واضح لتطويع الفن للآيديولوجيا). وبعد هذه المقتطفات السريعة، يتبيَّن بأنَّنا كان لدينا اعتقاد جازم بأنَّنا نعرف ما هي الآيديولوجيا؟ لكنَّ دليلاً مهما كانَ صلباً، لا يمكنهُ مقاومة الدحض والتفنيد. أليست هي فكرة مجرَّدة ترجمتها الوحيدة هي السلوك البشري، فلا يوجد فعلٌ أو قولٌ خالٍ فكرة سابقةٍ عليهِ، وحتى الأفعال والأقوال اللاإرادية، ليست نابعة من لا أدرية، أو من أرضية عذراء، خالية من الأفكار، فالعقل يوعز للجسم بالتصرف إزاءَ خطرٍ وشيك ومحدِّق بسرعة كبيرة تتناسب مع الخطر. (وفي المقابل يمكن أنْ نطرحَ سؤالنا: هل كلُّ خِطاب آيديولوجيا؟ وقد تسعفنا إجابة ألتوسير المباشرة: "لا مفرَّ من الآيديولوجيا")باري هندس- خطابات السلطة- ترجمة ميرفت ياقوت- المشروع القومي للترجمة- 2005- القاهرة- ص8. هل كلّ اختيار آيديولوجيا؟ يقول الدكتور مصطفى محمود(ليس أمامي سبيل غير أن اختار، لابد من أن أختار في كل لحظة، فإذا أضربت عن الاختيار، كان إضرابي نوعاً من الاختيار). ولا مفرَّ من الاختيار في كلِّ لحظةٍ يعيشها الإنسان. لا يمكن خوض تجربة الحياة الإنسانية بدون التفكير والاختيار في كل لحظة. وذكر الجاحظ في "البيان والتبيين"، وابن عبد ربه في "العقد الفريد" والتوحيدي في إمتاعهِ، وابن رشيق في عمدتهِ، خلا كتب الحديث، واقعةً مفادها(سُئلَ عَمْرو بن الأَهْتَمِ:"مَا تَقُولُ فِي الزِّبْرِقَانِ بن بَدْرٍ؟"قَالَ: مُطَاعٌ فِي أَنْدِيَتِهِ، شَدِيدُ الْعارضةِ، مَانِعٌ لِمَا وَرَاءِ ظَهْرِهِ، فَقَالَ الزِّبْرِقَانُ: إِنَّهُ لِيَعْلَمُ أَكْثَرَ مِمَّا وَصَفَنِي بِهِ، وَلَكِنَّهُ حَسَدَنِي، فَقَالَ عَمْرٌو: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَزَمِنُ الْمُرُوءَةِ ضَؤُلُ الْعَطَنِ، لَئِيمُ الْخَالِ، أَحْمَقُ الْوَالِدِ، وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ أَوَّلا، وَلَقَدْ صَدَقْتُ آخِراً، وَلَكِنِّي رَضِيتُ فَقُلْتُ أَحْسَنَ مَا عَلِمْتُ، وَغَضِبْتُ فَقُلْتُ أُقَبَّحَ مَا عَلِمْتُ). فتحت تأثير الغضب والرضا، ظهرَ لدينا خطابان متناقضان، كلاهما صادق وحقيقي إلى حدٍّ ما، وليس تماماً.
مطارق النقد الآيديولوجي: "كولستان والليل" أنموذجاً
نشر في: 29 مايو, 2010: 04:58 م