لطفية الدليميوقائع الحملة الفرنسية على مصر من جوانبها المثيرة للجدل وبالتحديد جانب النار ( الحرب وكوارثها ) وجانب النور ( الثقافة والتنوير) ضمها معرض في معهد العالم العربي في باريس ،معرض بونابرت ومصر:
النار والنور، كان معرضا بانوراميا ضخما مشتركا بين مصر وفرنسا، قدم في دقة وتوازن مدروس وعقلاني، كل تلك المتناقضات إلى جانب عظمة الحضارة الفرعونية وطبيعة وادي النيل والحياة الاجتماعية وتراث مصر الثقافي في سنوات الوجود الفرنسي الذي دام مئة عام من 1769 حتى 1869.. خرجت من معهد العالم العربي حيث افتتح معرض النار والنور، وقد تعززت فكرتي عن حيوية الشخصية المصرية وعشقها العارم للحياة وتخطيها العقلاني لويلات الحروب، لتمضي قدما في صنع الأمل دون الالتفات لركام الأحزان وتاريخ الخراب، وكان هذا درسا بليغا لي أنا العراقية التي كابدت دموية سنوات الحروب وخرابها ، هذه الروح المصرية النضرة تتجاوز مرارة الثأر، وتنظر إلى التاريخ باعتباره درسا لحاضر يجب أن يعاش، وهي توازن بين الكارثة التي صارت ندبة ملتئمة في الذاكرة، وحكمة التعاطي مع الآخر بندية وثقة بالنفس، فلا تتعامل مع فرنسا المعاصرة بإسقاطات من ماضي الحملة الفرنسية الدموي، بل بما نتج عن وجود العلماء والمثقفين الفرنسيين من حركة تنويرية -وإن لم تكن مقصودة بذاتها- لكنها فتحت أمام مصر سبل الاتصال بعصر العلوم الذي بدأ في الغرب خلال القرن الثامن عشر- هذه الروح هي أكثر ما سحرني في المعرض، كنت أفكر بطبيعة الروح المصرية ومرحها وسخريتها وتشبثها بالحياة وتبنيها سلوك التسامح ووضع كل حدث في سياقه التاريخي دون أن تمكنه من إلقاء ظلاله القاتمة على الحاضر، في الضد مما يحدث الآن في العراق من شحن لنزعات التقاتل الطائفي على خلفية أحداث تاريخية وقعت منذ ألف وأربعمئة عام، وكأن الزمن إنكفأ إلى تلك الحقبة، ولن يبارحها حتى يتحقق الثأر أو الدمار.. الروح المصرية روح بناءة مرنة ومتكيفة، بإيجابيتها ونظرتها المتفائلة، يساعدها موقع مصر المنفتح على الثقافات شرقا وغربا ، وحبها للسلام وتعايشها االعريق بمكوناتها والذي جعلها في منجى من الحروب الأهلية الطاحنة على امتداد العصور وتحاول القوى المتشددة الان إثارة الصراعات والعنف على أرضية دينية ..{ أخبرني أصدقاء فرنسيون ممن شاهدوا المعرض أن شخصية بونابرت الديكتاتورية العسكرية، ما كانت لتدعو العلماء والمثقفين لمصاحبة الحملة، لكن العلماء والباحثين والحرفيين وأصحاب المصانع هم الذين تبعوا الجيش لتوفير متطلبات الحرب من صناعة أسلحة ومعدات وملابس، وتدوين للوقائع، ودراسة المجتمعات التي تقع تحت هيمنة فرنسا الاستعمارية، وهي تتصدى للنفوذ البريطاني في مصر وما حولها، كثير من الفرنسيين يحكمون على نابليون بأنه هتلر إلا قليلا، ويتهكمون على اسمه الإيطالي (بونابارت) فهو من عائلة نبلاء إيطاليين -ويعني بونا الجيد أو الحسن من الأشياء وبارت الجزء بما يعني أنه الجزء الخير، أو كما نقول بالعربية: أبو الخير أو وجه السعد، ويضيف الفرنسيون في سخريتهم منه: ولكنه لم يستفد من مدلول اسمه الجميل، بل عمل على إظهار الجانب السيئ بالأحرى، وكان ينبغي ،ن يسمى (مالبارت) جانب السوء أو جالب النحس، لأنه انتهى بعد حملاته العسكرية ملكا مخلوعا منفيا في سجن بجزيرة سانت هيلينا مثل كل المستبدين.. معرض النار والنور محطة عقلانية في إطار جمالي وحضاري خلاب، لتفحص التاريخ ولإعادة النظر في أحداثه خارج الأحكام العاطفية والرؤية التعميمية للتدوين التاريخي المدرسي، وأظنه سيشكل تقليدا يحتذى في التعاطي مع ضرورات الحاضر ومستجدات الفكر والثقافة والحوار المتكافئ بين الثقافات والدول، وهو بما عرض من ذاكرة حروب النار ونتاج حركة التنوير وكشوفات علماء المصريات من الفرنسيين، وما نتج عن جهود المدونين في وصف مصر يشكل أمثولة ثقافية في سلوك الأمم تجاه تاريخها وحاضرها ومتطلبات المستقبل.. النار والنور، الحرب والثقافة ضدان يجتمعان ويتفاعلان، لكن اعدادا من مثقفي مصر ومتشدديها والمتشبثين بالفكر القومي وقفوا ضد المعرض وهاجموا فكرته واعتبروها نوعا من نفاق سياسي يمهد لترشيح وزير الثقافة لليونسكو، غير ما انتجه المعرض من تفاعل حضاري وحوار بين الثقافات وكشف لجانبي النور والنار ، المهالك والتنوير كان تأكيدا على دور الثقافة وحكمتها في تجاوز تاريخ الثأر وبدائيته ..
قناديل :عندما تتخطى الثقافة ثارات التاريخ
نشر في: 29 مايو, 2010: 05:03 م