اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > نيويورك وسخة.. مثل بغداد؟

نيويورك وسخة.. مثل بغداد؟

نشر في: 13 نوفمبر, 2012: 08:00 م

أتصفح أخباراً تخص حكومتنا من ملف السلاح الى ملف الزاد والتموين واردد مع نفسي ان قليلا من المدن وحسب تجعلك تحزن لمغادرتها رغم انك لم تتعرف عليها بعد، وهذا ما شعرت به مع الاصدقاء حين غادرنا نيويورك عائدين إلى العراق. والإعجاب بهذه المدينة الميتروبوليتان لم يحصل بسبب سحر الساحات والبنايات او ساحة تايم سكوير المنتمية للخيال العلمي ولا شارع برودواي ومسارحه.. الخ، وإنما لأصالة الإنسان هناك وحبه لموطنه.
كان المرور على نيويورك سريعا فقد نمنا هناك ليلتين وحسب. وأول ما كتبته على فيسبوك حين وصلت باب فندقي: نيويورك وسخة مثل بغداد! نعم فبعد تجوال شمل ٥ ولايات أمريكية لم نر سوى الأشياء النظيفة التي تلمع. ما خلق الله من سناجب واشجار وبشر، يلمع. ما بنى الانسان وشاد من عمران متقن، يلمع. السماء تلمع والنظام الدقيق والاعراف التي تنظم علاقة البشر، اشياء نظيفة كقطن على شجرته. لكن شوارع نيويورك تعج بأكياس نفايات لم يرفعها احد، ما الحكاية يا ناس؟
صباحا التقينا منظمة عمرها ١٠٩ اعوام "اتحاد الشعب" كانت ترصد الفساد في انتخابات امريكا ومؤسساتها نهاية القرن التاسع عشر بعد ان تحولت من حزب الى تجمع لاهالي الولاية ينظم احتجاجات على السلطة.. لم اسألهم عن فلسفة العمل ولا تقييمهم لانتخاب السيد اوباما، بل كررت عليهم استغرابي من كون هذه المدينة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، وسخة! ضحك الشباب الذين استقبلونا وراحوا يوضحون: لقد خرجنا توا من التعامل مع الإعصار ساندي، والمدينة التي تقع على ساحل الأطلسي المفعم بالحيوية والغضب على مر العصور، وجدت نفسها غارقة بأمواج ارتفاعها ٣٠ مترا أحياناً، وسارت فيها رياح اسرع من الفورد موستانغ المخصصة للسباقات، واقتلعت اشجارا وازالت بيوتا. لذلك فإن الحكومة المحلية ارسلت معظم عمال البلدية الى المناطق الاكثر تضررا بالاعصار لرفع آثار الدمار ومساعدة الناس على بدء حياة جديدة، ولم تعد طواقم المنظفين تكفي لرفع قمامة ١٠ ملايين شخص يعملون في مدينة واحدة. بعد بضعة أيام سيتغير الحال.
المدينة هذه قامت بإقالة مسؤول رفيع في "منظمة الدفاع المدني" قبل أيام، لا لأنه اختلس مالا من صفقة سلاح روسي او زور شهادة دراسية او ألغى الحصة التموينية ثم تلعثم كمبتدئ في مشهد هزلي.. بل لانه ارسل ٥ عمال من طاقم مؤسسته الحكومية كي يرفعوا شجرة اوقعها الاعصار امام باب منزله. عائلة الرئيس هذا كانت من ضحايا الاعصار وقد سدت الشجرة مدخل منزلها، والعمال كان من واجبهم رفع الشجرة مثل اي شيء من مخلفات الاعصار، لكن الرأي العام وبرلمان الولاية وجدا ان من الاولى مساعدة الاحياء الغارقة بمياه البحر قبل رفع شجرة من امام منزل رئيس المؤسسة المسؤولة عن اغاثة متضرري الاعصار، فأجبروه على الاستقالة بسبب ما بدا انه أنانية! هل اشق هدومي أمام الامريكان وانا أتذكر ساستنا الكبار المخلصين وكيف تغلق مواكبهم الشوارع كي يمروا بلا انزعاج من زحمة طرقنا، بينما آلاف الشيوخ والعجائز والاطفال محجوزون في باصات النقل وسيطرات السلطان؟ أم اشق هدومي لان شعبنا المسكين يتعرض الى الدوس بأحذية السلطان بضع مرات في اليوم وهو بلا حول ولا قوة، بينما سكان نيويورك يقيلون مسؤولا رفع شجرة الإعصار ساندي من أمام داره قبل ان ينجز مهمة الإنقاذ للاحياء الأكثر تضررا؟
قبل مغادرة المدينة اتيح لنا زيارة الشاطئ او الكورنيش، يسارا ترى على الضفة المقابلة فخامة نيوجرزي، وعلى اليمين ابهة بروكلين، وأمامك خليج نيويورك حيث جزيرة ليبرتي وتمثال الحرية الذي بناه مهندس فرنسي بعد ان انتهى من انجاز برج إيفل قبل ظهور العراق الحديث. وعلى الشواطئ عمال البلدية ينزحون مياه البحر من سراديب الكراجات والفنادق ويعيدون تبليط الشوارع ويعبدون الارصفة بحجر انيق جديد. اقاموا ورشة عمل ضخمة للتخلص من خدوش ثانوية سببها الاعصار على الوجه البحري لمدينتهم، لكن الحياة ظلت تسير بشكل طبيعي. لم يغلقوا شارعا ولم يضايقوا المارة ولم يضع احدهم لافتة تتحدث عن منجزات السلطان او مكرمات المحافظ، فالجميع يعمل بصمت وملايين السياح جاؤوا من طوكيو وبرلين والهند والكرادة وميسان وسيحان، للتجول في خلجان نيويورك "المنكوبة" ورؤية تاريخ بلاد المهاجرين هذه. السياح الأثرياء يستقلون هليكوبتر لتجول بهم حول مانهاتن، والتذكرة ١٠٠ دولار. نحن وآلاف مثلنا نستقل السفن الجميلة بنحو ٢٠ دولارا. الناس تريد رؤية نيويورك حتى بعد ساعتين من الإعصار، والحكومة تعمل بصمت دون أن تؤثر على مجرى الحياة. وحكومتنا تقول إن السلطان قضى على الفساد بعد اقالة رحيم العكيلي، لكنه اكتشف فسادا صغيرا في صفقة سلاح قيمتها ٤ مليارات دولار فألغى الصفقة. واكتشف فسادا صغيرا في مخصصات البطاقة التموينية البالغة ٦ مليارات دولار فألغاها، ثم عاد وقال انه خضع لضغوط الوزراء فأعادها، ثم ارتبك ثانية وتلعثم وتوعد بالتحقيق. مرة يقول انه شأن خطير يستحق التحقيق وأخرى يقول انه قرار سريع أخذه بمقترح وزير! والحكومة لا تتزحزح ولا يرف لها جفن ولا تسقط على بابها شجرة كالتي اطاحت بمسؤول الدفاع المدني بمانهاتن.
نيويورك وسخة بسبب الاعصار، لكن الكدمات على وجهها تختلف كثيرا عن وساخة مدننا التي تنام وتصحو على جبال القمامة والمياه الاسنة وتمتلئ شوارعها بصور وشعارات تمجد سلاطين الفشل. هذا أقصى ما لدي وانا عائد من موطن الإنسان الأخير، إلى محل الاقامة الحزين للإنسان الأول الذي اخترع الكتابة والعجلة ثم استقال واقام بين الازبال ومل حتى من الضحك على ساسة العراق في القرن ٢١. انه إنسان لا يدري هل عليه أن يموت من الضحك أم يموت من البكاء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. كنتُ مواطناً عُراقياً

    مع التحيات أخ سرمد وعاشت إيديك على هلمقارنة الجميلة وعاش قلمك أبداً لتعرية خلفاء وسلاطين عصر الصخول والخرفنة ... مزّقتُ شهادة جنسيتي وهوية الأحوال الشخصية .... والتي دفعتُ للحصول عليها ٣٢٠ دولاراً أمريكياً ورشوة,, ..... بحكم ضيق وقت زيارتي لذاك الوطن....

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: العميل "كوديا"

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

 علي حسين ما زلت أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها اسم فولتير.. ففي المتوسطة كان أستاذ لنا يهوى الفلسفة، يخصص جزءاً من درس اللغة العربية للحديث عن هوايته هذه ، وأتذكر أن أستاذي...
علي حسين

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (1-2)عطلة نهاية العام نقضيها عادة في بيت خوالي في بغداد. عام ١٩٥٨ كنا نسكن ملحقاً في معمل خياطة قمصان (أيرمن) في منتصف شارع النواب في الكاظمية. أسرّتنا فرشت في الحديقة في حر...
زهير الجزائري

دائماً محنة البطل

ياسين طه حافظ هذه سطور ملأى بأكثر مما تظهره.قلت اعيدها لنقرأها جميعاً مرة ثانية وربما ثالثة او اكثر. السطور لنيتشه وفي عمله الفخم "هكذا تكلم زارادشت" او هكذا تكلم زارا.لسنا معنيين الان بصفة نيتشه...
ياسين طه حافظ

آفاق علاقات إيران مع دول الجوار في عهد الرئيس الجديد مسعود پزشكیان

د. فالح الحمراني يدور نقاش حيوي في إيران، حول أولويات السياسة الخارجية للرئيس المنتخب مسعود بيزشكيان، الذي ألحق في الجولة الثانية من الانتخابات هزيمة "غير متوقعة"، بحسب بوابة "الدبلوماسية الإيرانية" على الإنترنت. والواقع أنه...
د. فالح الحمراني
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram