ملاحظات عن كتاب "جحيم المثقف"
شاكر لعيبي
قراءة النص الثقافي، غير الإبداعي:
إذا كان معروفا بأن قراءة النص الأدبيّ، كالشعري، هي نوع من التأويل الخالص للنص، فمن غير الأكيد تماماُ أن تكون قراءة النص النقدي والفلسفي تأويل أيضا إلا بقدر اتساع أو انغلاق ثقافة المتلقي.
وفي الحقيقة يثبت، عربياً، أن قراءة هذا النص غير الإبداعي هي تأويل بالمعنى غير المريح للمفردة، أحيانا تقويل ما لا يقوله النص غير الإبداعي وتحميله ما لا يتضمّنه. وأحيانا غير نادرة تأويل انطلاقاً من تصوّر مجهول المصدر عن المؤلف نفسه، أو فصله عن سياق عمل هذا المؤلف وكتاباته الأخرى.
وكلما كان هذا النص، غير الإبداعي، يثير مسألة إشكالية، أزداد توتر التأويل وذهب باتجاهات غير متوقعة وذات طابع شخصيّ.
ما يتوجب أخذه بنظر الاعتبار في أي تأويل من هذا القبيل إنما هو (الوضع السياقيّ) المقروء ببراعة وليس بطريقة عشوائية أو ميكانيكية. بالنسبة لعلماء التواصل والتأويل، حسب جامعة جنيف: "يجب أولاً ملاحظة أن الموقف التأويلي لا يقتصر على الاستقبال الأدبي للنصوص. إنه يميز الاتصال اللفظيّ بشكل عام. فالعبارات ليست كافية في حد ذاتها، على عكس ما اقترحته مخططات الاتصال في الستينيات من قبل علم اللغة المنطوق [...] يجب إكمال البيان اللفظي عن طريق استدعاء مجموعة من المعلومات السياقية والمعرفة والتفكير [...] العبارة (إني اشتريت الجريدة) لا تعني الشيء نفسه إذا نطقها أحد أباطرة الصحف أو قارئ صحيفة. وهي منطوقة من طرف قارئها إلى أحد أقاربه، فيمكن أن يكون لها معنى غير مباشر: لا جدوى من شراء الصحيفة لأنني فعلت ذلك بالفعل. إذا تمكنا تجاهل هذا الجانب التفسيري طويلا عند تلقي الجمل في التواصل اليومي، فذلك لأنه نشاط يُكتسب عن طريق التعلم ولكن بلا وعي إلى حد كبير".
أقول إن سياقات ثقافية تاريخية أنتجتْ بشكل وبآخر (خطابات متشابهة ظاهرياً) لدى مثقفين ومفكرين بل أجيال كاملة، متناقضة المشارب. عصر النهضة مثلاً، والفترة القوطية (التي انتجت أيضا نماذج فنية متشابهة على طول القارة الأوربية)، وخطابات مفكري عصر الأنوار (سيكون مفيدا مقاربة خطابات ديدرو بمعاصره جان جاك روسو ورؤية اقترابها أسلوبيا ومفهوميا في سياق القرن الثامن عشر) وخطابات بدايات القرن العشرين عند مفكرين مختلفين تماماً أيديولوجياً (كالمثقفين الشيوعيين، الرسامين والشعراء، وأقرانهم من اليمين الفرنسي). لكن الركون فقط إلى السياق في تأويل الخطابات المتشابهة عند مثقفي عصر ما، سيكون محض تلفيق إذا لم يؤخذ الاختلاف المرهف الذي كان يسعى أولئك المثقفون إلى إظهاره في تجاربهم رغم سطوة السياق.
يبرهن الوضع السياقيّ contextuel، أن سطوة ثقافة عصر ما، لغته، اهتماماته، سيادة تيارات ومصطلحات معينة فيه...الخ سوف تلقي بظلالها على ثقافة جميع مثقفي ذلك العصر. هذا الأمر لا يصلح أن يكون دليلا على تماثل خطابات جميع المثقفين. وعلى الباحث الصارم التنقيب عن الفوارق والفويرات المطمورة تحت ثقل تلك السطوة.
الحاصل في كتاب الأخرس أن هذا "الثقل" الموضوعي يصير أرضية لتأويل جميع الخطابات الثقافية وفق منطق "النسق الأيديولوجي". بحيث يتساءل المرء أين يا ترى يجد تطبيقات عملية للمنطلقات النظرية للباب الأول: "التشكيلة الاجتماعية والصراع على مؤسسات إنتاج الخطاب" ص21؟ سيكون عبثا الاستشهاد باستشهادات الكتاب، لأنه يدغم إدغاماً، فلنقل بذكاء، جميع استشهاداته بمقولة "النسق الأيديولوجي" التي تصير خلفية ثابتة للعمل في حين أن السياقات التي يشير إليها قد تكون ناسفا داخليا للنسق هذا.
هل يستطيع مثقف متنور مثل محمد الأخرس أن يزعم أن خطابات العصر العباسي في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين متماثلة، أيديولوجياً، هنا ميتافيزيقياً، استنادا إلى تشابهات لغتها ووحدة سياقاتها بل منطلقاتها الدينية المعروفة؟ سيكون إفراطاً. وستكون قراءته لها مثل قراءته الحالية للثقافة العراقية.
في العراق أيضا: كان هناك تشابه أسلوبي ولفظي بين خطابات سامي مهدي وفاضل العزاوي الثقافية الستينية، مثلا. أليس ممكنا فك الاشتباك الأسلوبيّ السياقي بينهما ورؤية أمر آخر؟
لعل النصوص الإبداعية وحدها، المكتملة منها خاصة، يمكن أن تشير إلى هذا التفارُق بين هذا المثقف وداك في خضم سياقيّ يمكن أن يوحي بالتشابه من كل نوع. كتاب محمد غازي الأخرس "حجيم المثقف" يقترح، ببراعة، "ثنائيات" صارمة ويرى أنها حكمتْ الثقافة العراقية: قومي يساري وبشكل أساسيّ. غير أن التدقيق في الأمر قد يقود مراتٍ إلى رؤية مثقف يساري الثقافة، قومياً أيضا وفق فهم مغاير للقومية العربية، على طول الثقافة العراقية الحديثة، ولن تنقصنا الأمثلة. إن كاتب هذا السطور معنيّ منذ عقود بالفن الإسلامي حتى ظنه البعض أسلاموياً بينما قصيدته المنشورة في عدد مجلة "الكلمة" سنة 1974 الخاص بالسبعينيات المشار إليه في الكتاب فتحمل عنوان "زهور اصطناعية".
في مادة سابقة رحّبنا بكتاب الأحرس الأقدم "خريف المثقف" ووجدناه" عملا متماسكاً، مكتوبا بلغة ناصعة، وموثقا إلى حد بعيد ويصيب كبد بعض الحقائق الكبيرة. وهو إضافة لذلك مشدود الى أطروحاته الأساسية بطريقة منهجية دون أن ينجرف عنها لمواضيع أخرى إلا لأغراض تسند أفكاره وتدعمها، وأنْ وجد تاريخ الثقافة في البلد قد اُختصر الى محض استشهادات تعزز فرضيات الكاتب، إذا لم تكن قد قُلّمت لصالحها في بعض الأحيان". وقد لاحظنا "إن الكثير من المُسْتشهَد بهم لن يجد في الكتاب الصورة التي يأملها عن ذاته.."، كما لاحظنا أن بعض مروياته واستشهاداته هي "انتقائية" رغم أنها تمثل سردية معقولة لتاريخ الثقافة العراقية.
اليوم يستند الأخرس في كتابة "جحيم المثقف" على أهم طروحات ميشيل فوكو، معاودا الاشتغال على "النسق الأيديولوجي" العزيز على قلوب مثقفين عراقيين كثر، بدءاً من عنوانه الفرعي "الثقافة والأيديولوجيا في العراق 1945 – 1980"، وحتى الآخر.
فلنقل إن أنساق فوكو الثقافية، والسياقية لم تدفعه في "تاريخ الجنون" مثلاً إلى الخلط بين جميع أنواع الخطابات في فترة ما واعتبارها أمراً متماثلاً. نعم ثمة نسق، لكن كان على فوكو الفرز ومعرفة الخطاب الأكثر دوياً وتعبيراً في هذا النسق. بل أنه كتاب تاريخي بالمعنى الدقيق للمفردة.
وإذا تعلق الأمر بظواهر شعرية فالأمر أكثر تعقيداً ورهافة لأن اعتبار جميع الخطابات الثقافية العراقية متماثلة أيديولوجياً كما يفعل الأخرس سيدفع، بوعي ومن دون وعي، إلى وضع وعي فاضل العزاوي مقابل وعي هلال ناجي (وهذا مثال مقصود مني لكن هناك ما يشابهه في الكتاب)، ووضع نعمان ماهر الكنعاني في تواز مع خطاب بدر السياب في مرحلة ما. أن ما يرشح عن مثل هذه التماثلات الثقافية يمكن أن ينسحب في ذهن القارئ على النصوص الإبداعية، كأن الأخرس يفترض ضمنياً، كنتيجة لهذه الخطابات الثقافية المتماثلة في الشكل، أن دواوين فاضل العزاوي، مرة أخرى، تقع في مقام دواوين حميد سعيد، وأن ديوان غزاي درع الطائي "وردة لعيون البعثية ليلى" 1967 يُقابل ديوان "أصابع الحجر" 1967 لشاكر لعيبي. وفي ذلك في الأقل غياب للعدالة وربما أيضاً للقراءة الأدبية المنصفة، الشعرية والتاريخية، التاريخية خاصة.
أن مفهوم المثقف نفسه في الكتاب غير مُعرّف بالصرامة المنهجية المأمولة. فـهو بدءا من فصله "السبعينيات الملفقة" ص227) يضع في "مفهوم المثقف"، جميع من كتب في عدد مجلة الكلمة عام 1974 ذاك، ممن لم يتجاوز عمره الـ 19 عاماً في تلك السنة، ثم يعالجه وفق "محنة المثقف" وجحيمه، المثقف الذي لم يكنه يومها.
أن "لازمة" الأيديولوجيا هذه، في الثقافة العراقية المعاصرة، هي أبسط وسيلة لتجنب تأويل من نوع آخر، خاصة الفحص النصيّ "معالجة النصوص" الداعمة لأي ادعاء ايديولوجي في سياق تاريخي ما. هذا ما رأيناه مؤخرا في كتابات خفيفة وتأويلية بالمعنى الاعتباطي لكاتب بصري "رياض العلي"، وغيره.
الملاحظة الجديرة بالتسجيل: أن الانشظار أو الاختلاف بين قوميين وغير قوميين (يساريين خاصة بمختلف التسميات) مشهود له في ثقافات الكرة الأرضية قاطبة منذ أربعينيات القرن العشرين. وقد تبلور واشتدّ في العالم كله بعد الحرب العالمية الثانية أي التاريخ الذي يتخذه الأخرس منطلقا لدراسته: 1945م. هذا معروف جيداً في الثقافة الفرنسية التي ترقى فكرة ظهور القومية فيها إلى القرن الثامن عشر، وفي إنكلترا بين حزب العمال وحزب المحافظين، وحتى في اليابان والصين الحديثين. لو أننا قرأنا كتاب "Approches critiques de la pensée japonaise du xxe siècle " =مقاربات نقدية للفكر الياباني في القرن العشرين، فلسوف نتأكد أنه يقود إلى أسماء وسياقات وممارسات وتواريخ مماثلة مما لدينا بدءاً من مفهوم "الروح اليابانية" (Nihon Seishin) الذي شمل كما في مفهوم"القومية العربية" الفلسفة وعلم الجمال والنقد الأدبي والفكر السياسي والأسس الفلسفية والأخلاقية والكونية للبوذية والشنتو والكونفوشيوسية و "الأديان الجديدة". وليس وصولا إلى تعقيدات العلاقة بين (المثقفين) اليابانيين ومداهنات (السلطة)، المتماثلة حرفيا مع ما شهدناه في العراق. في الصين كذلك.
الظاهرة عامة، الأمر الذي يم يدفع الفرنسيين أو اليابانيين أو الإنكليز لمناقشة طروحات ثقافاتهم كلها وبالجملة في إطار "النسق الإيديولوجي" هذا وفي إطار الثنائية التي تميز طروحات بعض الثقافة العراقية.
نتكلم عن تماثل analogie وليس تطابقاً أو تشابها حرفيا بين تلك الثقافات، والبون كبير بين الأمرين.
هذا النسق المسمى أيديولوجيا في العراق (التسمية ملتبسة بالأحرى) ليس حكرا على العراق إذا كنا نعني به سجالاً بين النزعات القومية والحركات اليسارية والماركسية، وقد انبثق لدى ظهور الدولةالقومية في العالم. إن الدولة القومية هي ظاهرة تاريخية حديثة، ظهورت بصعود الرأسمالية. وتم إعداد قاعدتها الاقتصادية تدريجياً، خلال العصور الوسطى. تشكلت الدول القومية الرئيسية في أوروبا منذ قرن الثورة الفرنسية إلى توحيد ألمانيا في عام 1870. وقد حدثت الثورات البرجوازية في هولندا وبريطانيا في الفترة السابقة. في هولندا ، اتخذت الثورة شكل حرب التحرير الوطني ضد إسبانيا في القرن السادس عشر. كان إنشاء الدول القومية ظاهرة تقدمية في ذلك الوقت. أما القومية فهي أيديولوجية (هنا نتحدث عن أيديوجيا) فرضت نفسها في القرن التاسع عشر في أوروبا وأمريكا. واستنادا إلى مبدأ سيادة الدولة القومية، ستتبنى حركات الاستقلال القومية المطالبة برحيل القوى الاستعمارية. في الواقع ، حسب النظرية الماركسية ، تمثل القومية مرحلة من مراحل "السيرورة الثورية"، لكن الثورة يجب أن تلغي الدولة القومية. كان هذا الطموح دافعا للوحدة الأفريقية والوحدة الأمريكية والعروبة في عالمنا.