د. رسول محمد رسول
شاءت الصدف أن يسافر أنطونان آرتو (1896 - 1948) إلى (متحف أورانجوري) الفرنسي لمشاهدة معرض لوحات الرّسام فان غوغ (1853 - 1890)،
وهناك اشتعلت العاصفة في داخل آرتو، كان ذلك في سنة 1948، عاصفة تتحفّر في صفحات كتاب يحرّكها الألم وما هو أبعد منه..، أي الغضب فكان آرتو الجرح والسكين، إنه الألم الذي يصبح تربة تتفتّح فيها الأزهار.
يستند آرتو إلى نصوص كثيرة كتبها عن فان غوغ تعود إلى سنة 1936، وكتب آرتو عنه لكي يبرّئه من الجنون وكان ذلك بمثابة المدخل إلى فان غوغ فيبحث عن الحياة الحقيقة لدى الفنان فان غوغ وما حاجتنا إلى ذلك ليس بعيداً عن شعراء فرنسيين كبار يستعيد آرتو مساهمتهم. وهل كان فان غوغ موسيقيا؟ يتساءل آرتو فيجيب: بأن غوغ كان هكذا يعي أهمية الكلمة المكتوبة في حياته، وكان يرى في التعبير بشكل جيد عن شيء ما لا يقل أهمية وصعوبة عن «رسم شيء»!
وفي وقت نعتقد أن «الترجمة قراءة تغوص تحت جلد النص» (ص 17) فإن كتاب آرتو هذا هو «وصيته الأخيرة قبل وفاته سنة 1948 التي عبَّر فيها عن رفضه الامتثال للأعراف السائدة ولكل ما من شأنه أن يعرقل الإنسان في صعوده نحو الأعماق».
منتحر المجتمع
هذا هو العنوان الفرعي للكتاب لكنّه العنوان الصلب القائم على فكرة أن العالم هو الذي زاغ وخرج عن السياق الطبيعي وليس الإنسان بمعنى أن فان غوغ ليس هو الخارج إنما العالم! وهكذا اقدمَ مجتمع مريض على اختراع الطب النفسي للدفاع عن نفسه، فلم يكن فان غوغ مجنوناً إنما أعماله الفنية كانت تجسيدا لنيران يونانية وقنابل ذريّة، وهكذا فإن أعماله الفنية لا تهاجم الأعراف السائدة؛ بل المؤسسات.
إن الطب الذي غدا جثّة قديمة يعلن أن فان غوغ مجنون! وهكذا يقول آرتو خلف المجتمع في مصحاته أولئك الذين أراد التخلّص منهم جميعا أو الدفاع عن نفسه أمام اتهامهم لأنهم رفضوا أن يكونوا متواطئين مثله أبشع القاذورات! ويتساءل آرتو: كيف استطاع «المسكين» فان غوغ أن يؤمن الإضاءة لنفسه؟ فهو لم يمت من حالة هذيان خاص؛ بل لأنه كان على المستوى الجسدي ساحة لمشكلة تتخبّط حولها الروح الظالمة لهذه الإنسانية؛ غلبة اللحم على العقل أو الجسد على اللحم أو العقل على الاثنين معا.
ويتساءل آرتو أيضا: أين مكان الأنا البشرية داخل هذا الهذيان؟ فيقول: بحث فان غوغ عن أناه البشرية طوال حياته؛ فهو لم ينتحر بسبب نوبة جنون أو بسبب ذعر من عدم النجاح فيما كان يصبو إليه فقد توصّل وأكتشف ما كان عليه ومن كان عندما أقدم الضمير العام للمجتمع على دفعه إلى الانتحار، بعد أن محا في نفسه الوعي الخارق..
مصادر اللوحات
وينظر آرتو في مصادر لوحات فان غوغ بهذا المعرض فيجدها في ألحان الأرغن وهي اسهم ناريّة ولأعياد جويّة فتحت اللوحات أبوابا جديدة في عالم الرّسم ويعتقد آرتو أن الراصة التي قتلته راح يدس غربانا سودا فيها بحيث ترك فان غوغ غربانه كجراثيم سود من طحاله، هو المتنحر، على بعد سنتمترات قليلة من أعلى اللوحة ومن أسفلها زياتي هذا الكلام من زاوية بيان جماليات الرّسوم واللوحات السخيّة لديه.
ويعتقد غوغ أن الواقع يتفوّق على التاريخ وأن البحث عن الرمز والأسطورة واجب على الفنان وهو ما أقبل عليه فان غوغ، فقد وجد نفسه تحت ضغط الروح الشريرة المتمثلة في الدكتور «غاشيه» طبيب الأمراض النفسية الذي كان يكرهه بوصفه رساما، ويتوغّل آرتو بعض الشيء في هذا السبيل لأهميته..
ثم يتحدّث عن تخطيط «حديقة دوبيني» ولوحة «المقهى الليلي»، ويسأل آرتو: ما الرّسم؟ كيف نرسم؟ فيجيب: الرّسم شق طريق عبر جدار جديد عير مرئي، وإنه يقع بين ما نشعر به وما نستطيع فعله. ويلقي آرتو الضوء على جماليات غوغ في الرّسم ليس بعيدا عن الواقع لكنّه يتوقّف عند لوحة «الغربان» حيث الأرض تعادل البحر وها هنا إيغال في التجريد.
بهذه اللغة القرائية أمعن آرتو في تجربة فان غوغ إمعانا جميلا جديد لا يضاهيه إمعان قرائي من ذي قبل لأنه كان قريبا من ذائقة المقروء عبر لغة نقدية/ قرائيّة موفقة في جمالها النقدي ليختم كتابه بعدد من لوحات فان غوغ حتى يكون القارئ قريبا من عالم الفنان الرّسام غوغ.
لا أجمل لغة نقديّة من هذه التي نطالعها هنا في صفحات هذا الكتاب عن فنان يصفه آرتو بـ «المسكين» فلا بد أن يقرأ المهتمون هذا الكتاب دون تردُّد فألف تهنئة بقراء العربية هذه الترجمة الغنية إلى العربية نهض بها عيسى مخلوف مشكورا.