احمد المهنا
كم اتمنى أن أعرف متى يهدأ البلد. وبعد ذلك قد لا يهم أن نعرف لماذا لم يهدأ، أو يستقر، طوال عقود. فالمهم أن يهدأ وأن يعود الى الحياة. والحياة فيها ما يسوى ان يعيش الانسان من أجله. بل ان هناك الكثير الذي لا يعد ولا يحصى مما يستحق أن تعاش الحياة من أجله.
ولكن يبدو أن اصعب شيء هو اكتشاف قيمة الحياة. منذ صارت السياسة أهم من الحياة صارت البلاد بلا حياة. منذ تجاوزت الدولة مجالها ودخلت كل المجالات، من التجارة والديانة والثقافة الى الأخلاق والتسلية والألعاب. والسياسة لم تصبح بهذه الدرجة من الأهمية عند كل او أغلب الناس. لم تصبح كذلك أبدا. ولكنها اصبحت كذلك عند أقلية من المشتغلين عند فكرة السياسة "الشمولية". وكانوا أقلية ترث أقلية. وكل منها استطاع أن يكون أقوى من الأغلبية وحاكما عليها. وكانت لكل من هذه الأقليات وظيفة واحدة لا تتغير هي اعدام قيمة الحياة.
وقد أجادت في هذه الوظيفة الى حد الكمال. فقد انست الناس معنى الحياة. وأفقدت الناس الإحساس بقيمة الحياة. أما الذين لم تنجح معهم، وظلوا مدركين لقيمة الحياة، فقد سودت عيشهم، أو منعتهم من الحصول على مكان تحت شمس البلاد. هؤلاء إما انسحبوا الى أنفسهم واغلقوا الأبواب من حولهم، وإما سلكوا طريقا لا عودة فيه. ثم عاشوا على الذاكرة وماتوا على الأحزان. وكانوا أوفر حظا لأن لديهم ما يستحق التذكر وما يستأهل الحزن.
أما القسم الأعظم من السكان فكانوا يتخدرون وينسون. انهم يمارسون كثيرا من الأعمال التي يقوم بها الناس في كل مكان وزمان. كما يشهدون الكثير من الظواهر والحالات التي تمر ببني البشر. ولكن ما ينسونه هو الأسباب التي يحيا من أجلها البشر. ينسون التساؤل حول هذه الأسباب فلا تعود هناك ببساطة أسباب للحياة وانما أفكار للموت. وبعد ذلك يعتادون الأفكار التي من أجلها يموت البشر. يعتادون عقائد الموت.
والناس تألف الموت اذا لم تكن عشرتها طويلة وعميقة وغنية مع الحياة. فبخلاف ذلك تكون عشرة الحياة طارئة ويمكن الرجوع عنها مع اول عاصفة. والحياة ليست على الدوام خبرة روحية عميقة مشتركة بين البشر. ففي الأوقات والعصور المظلمة تنعدم خبرة الحياة وتخلي مكانها لخبرة الموت. كان كلكامش ثمرة الحياة. لذلك أصابه الفزع عند رؤية الموت. بدا له الموت شيئا مفاجئا وغريبا ومؤلما الى حد لا يحتمل. ذلك ان حياته تحت الشمس كانت هي كل شيء. وكان الموت هو خسارة كل شيء. كان الموت اكتشافا دافعا للبحث عن الخلود لأن الحياة كانت قد أصبحت هي العرف والعادة. وكان الموت اكتشافا للمستحيل بعد سلسلة طويلة من اكتشافات البلاد الأولى لإمكانيات ومباهج الحياة.
ولكن تعاقب الحياة والموت كان قانون الحضارات. وكان الموت في العصور القديمة والوسيطة أطول عمرا من الحياة. كانت عصور الظلام أطول من عصور الأنوار. كانت الأنوار زائرة خاطفة. وكانت الظلمات ساكنة مقيمة. والأنوار هي تشغيل حركة العقل الدائبة لاكتشاف الأسباب التي من أجلها نعيش الحياة، واكتشاف الطرق التي يجب نعيش بها الحياة. أما الظلمات فهي تعطيل العقل عن الحركة، تجميده، وتخديره بعقائد الموت، وهي كل ما يبخس قيمة الحياة، ويجعلها صحراء قاحلة حزينة ومضطربة.
متى تنحسر الظلمات؟ متى تشرق الأنوار؟ متى تتعبد دروب الحياة؟
أحاديث شفوية: متى يحل الهدوء؟
[post-views]
نشر في: 8 أكتوبر, 2012: 07:59 م