فالح الحمرانياعتقد أن ليس هناك من يجادل اليوم عن حقيقة ان للعولمة كظاهرة عصرية وجوهاً متعددة، منها الايجابي ومنها السلبي. وتسعى الدول والمنظمات لكسب المزيد من المنافع والأرباح من تجليات العولمة،ومن المستحيل الوقوف اليوم بوجه العولمة والتصدي لها، لأنها غدت ظاهرة موضوعية.
ومن دون شك فهناك قوى تدعو بالحاح الى عقلنة الظاهرة الكونية وتوظيفها لخدمة التطلعات البشرية بنشر المعرفة والافادة من منجزات الحضارات المتقدمة تكنولوجيا وفي القضاء على الفقر ومعالجة الامراض وإشاعة التعليم ومساعدة الدول المتخلفة على التحديث وعدم تبديد الهوية القومية. وهناك من يرى ضرورة تجنب وضع العراقيل امام الظاهرة الكونية. في هذا الخضم من الصراعات استفادت شركات ومكاتب السياحة من ظاهرة العولمة التي فتحت الحدود بين الدول، وإثارتها حب استطلاع لتعرف الامم على بعضها البعض الاخر، وتعميمها الشعور بوحدة العالم ... وغدت تعمل على جني الارباح من ظل ذلك.لقد رافقت منذ الأزمان السحيقة الإنسان الرغبة في السفر في البلدان البعيدة واكتشاف المجهول والبحث عن عوالم وانطباعات جديدة، والتعرف على عادات وتقاليد وثقافات الامم الاخرىوقال سكان روما السياحة تطيل العمر.ووقفت وراء النشاط السياحي والرحلات التاريخية الكبرى ايضا مصالح اقتصادية وجيو ـ سياسية.وعرف التاريخ البشري رحلات وأسفاراً كبرى كانت لها دلائل وانعكاسات مهمة.وكان السفر مشروعا شخصيا يتحمل الفرد أعباءه كان السائح يتجشم عناء السفر الطويل من اجل ان يحط ترحاله في مدينة لفترة طويلة نسبيا يقوم خلالها بالاقتراب والتعرف على عوالم الدولة المضيفة. والفرد بنفسه يختار الموقع او المواقع التي تروق له.ومن المفروض أن تفتح إنجازات العصر الكبرى، وخاصة تسهيل التنقل بين الدول، وشبكات السكن والاتصال وتعلم اللغات وتقارب الشعوب والدول افاقا رحبة للانسان لكي يواصل ذلك التقليد بسهولة وسعة. بيد أن التجربة الإنسانية تبرهن على العكس من ذلك. ووفرت القيود والقواعد وانشغالات الانسان اليومية والتزامه بضوابط العمل وغيرها فرصة للشركات السياحية للافادة والانتفاع وجني الارباح الطائلة من سعي الانسان للسفر والسياحة، مقابل تقديمها الحد الأدنى من الخدمات التي تخلق لدى الانسان الشعور بتطمين رغبته في الراحة والاستجمام والتعرف على الامم الاخرى وثقافاتها وآثارها التاريخية. وتخصص الشركات على الاغلب اسبوعا واحدا او اسبوعين لكي يقوم الانسان باجتراح هذه المأثرة. في سفرتي مؤخرا لليونان، وبالتحديد إلى إقليم مقدونيا على ساحل بحر ايجة، عرضت علينا الشركة السياحية برنامجا مغريا، وباسعار غير مغرية، لزيارة اماكن اثرية منتشرة في اقليم مقدونيا ذي التاريخ العريق وما جاورها. وحينما شرحت ممثلة الشركة الدلالة المعرفية والثقافية البشرية لتلك المعالم التاريخية فانها اشعلت الرغبة الجامحة في الاطلاع على ذلك التاريخ المجيد، الذي يواصل تاثيره على العصر الراهن. وهناك ايضا اثار تخص الماثر التي اجترحها المسيحييون الاوائل من نشر دينهم الجديد ليكون بديلا عن دين الهة الاولمب القديم. بل وهناك رحلة لاثينا لمدة اقل من 24 ساعة للاطلاع على معالمها الاثرية. كل هذا في اسبوع اواسبوعين. وحينما يعود السائح منهكا من كل هذه الرحلات البرية والجوية والبحرية، لايعثر في ذاكرته الا على مقاطع من صور مضببة، وانطباعات غير متكاملة كما يحدث للانسان بعد حلم او مشاهدة فيلم سينمائي. وربما سيقول انه كان في اثينا حقا، ولكنه سيصمت عما شاهده في العاصمة التي اخذت اسم الالهة الحسناء والحكيمة ابنة سيد الالهة زيفس ومنقذة ادويسا، لانه شاهدها من نافذة الحافلة التي تقله او في جولة سريعة باحدى الاماكن الاثرية. السائح في كل جولاته يشاهد على عجل دون روية وتمعن واستشراف مسرح الاكروبول وكاتدرائيات روما ومحتويات الارمتياج او اللوفر او في قصر الحمراءفي الاندلس او في المسجد ـ الكاتدرائية في قرطبة. وعادة ما تتم هذه الجولات على جناح السرعة في حالة من الهرولة والركض، والتوضيحات المقتضبة او احادية الجانب. والرابح الوحيد منها شركات السياحة التي غدت اليوم مؤسسات كبرى تضم شبكات النقل والاتصال والسكن والممثليات وطاقم كبير من المحترفين في مختلف الاختصاصات.السياحة بالفعل عامل مهم في التقارب بين الامم والشعوب والاديان. فانها تتيح ان يطلع الانسان بام عينيه ويقلبه على الاخر، يقترب منه، يتعرف على عاداته وتقاليده وتصرفه اليومي. وفي هذه الحالة سوف تكتسب بعض المظاهر اهمية خاصة لم يعرها الانسان سابقا اهمية تذكر. وتكشف هذه الامور عن عمق الثقافة او اختلافها مع ثقافة السائح. ويتسنى للانسان ان يتلمس بنفسه نسبية القيم البشرية، بما في ذلك الاخلاقية والدينية، وهذا درس كبير يساعد الانسان على الخروج من الشرنقة التي لفته وتحرك خلالها منذ ولادته. رؤية الحضارة الاخرى تنمي في الانسان القدرة على التعاطي بموضوعية وروح انتقادية مع حضارته وقيمه، واجتثاث روح التعصب والتطرف ورفض الاخر والنفور منه وبغضه. انها عامل لتحويل الصراع بين الحضارات الى عملية حوارية ورغبة في التقارب.بيد ان عصر العولمة يفتح افاقا بديلة للسائح اللبيب الذي يسعى للدم
السياحة فـي عصر العولمة
نشر في: 31 مايو, 2010: 05:18 م