ثائر صالح
يعود بي الزمان اليوم إلى نحو 45 سنة مضت، عندما استمعت للمرة الأولى إلى مجموعة الفرنسي جان فيليب رامو (1683 – 1764) المعنونة "قطع للكلافسان في كونسرت"
وهي مكتوبة للكلافسان (الاسم الفرنسي للهاربسيكورد أو التشمبالو أو ببساطة الكلافير بالألمانية) والكمان والفيولا دا غامبا، ويمكن إبدال الكمان بالفلوت. تركت هذه القطع أثرا كبيراً علي وعلى كل من سمعها من أصدقائي، وكان التسجيل يتألف من اسطوانيتين (البوم) من أنتاج شركة ميلوديا الروسية (الاتحاد السوفيتي وقتها) حصلت عليه هدية من صديق عزيز جلبها معه من سفرة الى الاتحاد السوفيتي.
نشر رامو هذه القطع سنة 1741، بعد فترة طويلة من نشره ثلاثة "كتب" من "قطع الكلافسان" (1706، 1724 وسنة 1727) وهي أعمال للهاربسيكورد المنفرد تعد من نوادر الأعمال لهذه الأداة. تتميز القطع بالعمق العاطفي وبألحانها الانسيابية الأخاذة الساحرة كعادتنا مع الكثير من أعمال رامو، وبالتفرد في إعطاء الهاربسيكورد دوراً أساسياً في القطع، بخلاف ما كان سائداً في ذلك الوقت. حيث يقول رامو: "لو قدمنا القطع على الكلافسان المنفرد لوحده لما شعر أحد بالنقص". وكان الهاربسيكورد يستعمل في شكل السوناتا الثلاثية (تريوسوناتا) كأداة مصاحبة هارمونية وإيقاعية مع إعطاء العازف حرية كبيرة في حشو الجزء الذي يقدمه بالزخارف والارتجال، أما رامو فكتب جزء الهاربسيكورد بالتفصيل دون إعطاء العازف حرية التصرف، ويسمى هذا بلغة الموسيقى أوبليغاتو، أي إجباري. وقد سبق باخ رامو في هذا الشأن، فكان باخ أول من استعمل الهاربسيكورد كأداة منفردة في الكونشرتو مع كتابة الجزء الخاص بها كاملاً مثلا في كونشرتو براندنبورغ رقم 5 التي كتبها في السنوات السابقة لإهدائها إلى المارغراف كريستيان لودفيغ براندنبورغ سنة 1721 للحصول على عمل عنده دون طائل. بذلك كان هذان العملاقان سباقين في إعطاء هذه الأداة دوراً جديداً إلى جانب الدور التقليدي في المصاحبة المسماة بالقرار (الباص) المرقم أو المستمر. ونعرف عن رامو اهتمامه بنظرية الموسيقى وتقديمه حلولاً نظرية لتعديل دوزان أدوات المفاتيح، وبينما لا نعرف بدقة كيف كان باخ يضبط أوتار الهاربسيكورد وما هو نظامه المعدل، ترك لنا رامو كتابات تفصيلية عن طريقته في دوزان أدوات المفاتيح (وله كتابات نظرية عديدة مثل "مبحث في الهارموني" 1722).
تتكون القطع من خمس كونسرتات، وهي ليست في شكل الكونشرتو بل في شكل السوناتا المعتاد ذلك الوقت، بثلاث أو أربع حركات، أعطاها رامو أسماء مختلفة، بينها أسماء مؤلفين فرنسيين مثل فوركري (أنتوان 1672 – 1745) أو ماريه (ماران، 1656 – 1728) أو أسماء مناطق، أو ببساطة نوع القطعة، مثل رقصة منويت أو التامبورين أو البانتوميم، أو في شكل الروندو. وتسمية المقطوعات الموسيقية عادة شائعة في فرنسا آنئذ، وكثيراً ما يعبر الاسم عن الموسيقى نفسها، مثل الدجاجة وهي قطعة من أعمال رامو تذكرنا إيقاعاتها ونقراتها بحركة الدجاجة، أو قطعة جوزيف-نيكولا روييه (1703 – 1755) المخيفة المسماة دوار أو دوخة.