طالب عبد العزيز
بحدود معرفتي المتواضعة، فأنا لم أقرأ كتاباً شعرياً لشاعر عربي مهاجر، تأمل المكان الذي حل فيه، وكتبه شعراً، بلا تأثير من نستولوجيا المكان الاول، الذي قدم منه، إلا في كتاب صديقنا الشاعر جمال جمعة(النصوص الاسكندنافية) تلك التجربة الجميلة، والفريدة، التي جاءت مستخلَصَة من ذهول ودهشة اللحظة الأولى لوجود صاحبها هناك، والتي استثمرها شعراً.
كتب جمال الكتاب ذاك، حال قبوله مهاجراً في كوبنهاجن بالدنمرك، ولم ينقطع عنه بل نقل لنا تجربته هناك، مأخوذة من المدينة الجميلة وعوالم النساء الشقراوات والشوارع المضاءة بالنور و الملطخة بالثلج والغابات ووو في أكثر من كتاب شعري جميل.
تذكرتُ تجربة الشاعر جمعة وأنا أقرأ (عرش بغداد) كتاب الشاعر ياسين غالب، المقيم في هلسنكي- فلندا، والقادم لها من البصرة بالعراق. في جملة قصائد كتبت بين العامين(2015-2020) تصدّرتها جملةُ النفري:” وقال لي : “العبيد في الجنة والاحرار في النار” هذا الكتاب الشعري الذي لم يستطع صاحبُه التخلص من حُرق وآلام موطنه الاول، فحملها الى هناك قصائد تتنفس الغربة، بوصفها هواءاً لا بدَّ منه، ومتاعاً لرحلة الطويلة، في تداع استدعاه حجم المُكث الطويل في الوطن الموجع، على الرغم من مضي وتقلّب الزمن.
أخذت قصائد الغربة اكثر من نصف الكتاب، بل لم يتخلص منها (الغربة)حتى في القصائد التي كتبت خالصة للمكان الجديد، حيث تتغير الحياة ويُستشعرُ نعيمُها، فهو اليوم يجلس في مكان آمن، يتمتع فيه بعناصر الطمأنينة والسلام، لكننا نجده ينحدر فجأة الى عالمه الاول، عالم الحرب والخنادق والسواتر، بما خلفته في روحه من الخوف والرعب والقتل وانعدام قيم الانسانية.
ويشكل المكان هاجساً واضحاً في نصوص الكتاب. هناك رحلة متبادلة، ظلت القصائد فيها أسيرة العالم الاول، الطفولة والامسيات الناعمة، في البيت والزقاق، ومع الجيران لتنتقل الى عالم الحرب والدم، ومن ثم الى عالم الغربة والحياة، حيث الجليد والأنساق الحياتية المختلفة، والى حيث: (الخوف يوقف نهرا) أو ( يُخرس خيمةً) كما يقول في احدى قصائده. في قصائد الكتاب الأولى نقتفي خطى اللغة الهادئة، والانساق التعبيرية (التقليدية) لا بمعنى التبسيط والرتابة، إنما بمعنى المتعارف والمتداول شعريا في الكتب وبين الشعراء، لكننا نفاجأ بالتراكيب السوريالية، واللغة المطعّمة باللفظ الانجليزي، لكأن الشاعر يريد التخلص مما ظل يعاني منه لسنوات، ويلقي بما كان يحمله في وعاء الغموض والتراكيب الجديدة، على الرغم من قدرتها التعبيرية وشحنة المواجهة (القي القلبَ كطعمٍ لسمك الخوف( .
ظل الشاعر في قصائد وابيات عديدة يتأمل شط العرب، روح المدينة التي حملها معه، بعين تقرحت انتظاراً، ويسعى لحلم لن يتحقق في المنفى، الذي ظل يتعفن بالنأي والنسيان( من داس الوجه البحري الناعس وأيقظ وحش النار في قاع خليج العرب)؟ وفي قصيدة أخرى يستعيد بقصيدة السياب الشهيرة(غريب على الخليج) فيحاكيها قائلاً( .. والظلام، حتى الظلام، هناك احلك، فهو يعتصر العراق) إذن فهو ما زال يحلم بالعراق.
برأيي البسيط ايضاً، فأن الشاعر العراقي المغترب يختلف عن أيّ شاعر آخر تغرّب، فهو مشدود بوعيه أو بدونه إلى المكان الاول، حيث ولد وتكوّن، لذا فهو قلما يستمد مادته من وجوده الثاني، في الوطن البديل، وياسين غالب ليس استثناءًا، ففي قصائد عديدة له كان قد استل مادته من مقر إقامته في هلسنكي، لكنه راح يطعّمها ويؤثثها بمكانه الاول، في دائرة شبه مغلقة، غير قادرة على اقتلاعه من هناك، فهو مطّوق بموجة تلفه، كلما أراد الفرار منها، (الكلبُ الذي ينزّهُ عجوزاً) و(اكثر ما يستعمل يوميا كلمة حب، وورق التواليت، وشتيمة محلية) لكنه في قصيدة مثل (كاريليا) وهي عن حرب الشتاء، التي وقعت بين روسيا وفنلندا يرينا إمكانية تحولاته، فيسبر غور التاريخ ويكتب لنا نصاً مغايراً لكنه لا يخلو من البنادق والرصاص والدم.
ثمة رحلة ممتعة نجدها في (عرش بغداد) لياسين غالب، رحلة أراها دائرية، تمتد من البصرة وبغداد واسطنبول الى هلسنكي لكنها تنتهي بالبصرة دائماً، رحلة قوامها الالم ومادتها الغربة والامكنة المتحولة ومحاولات التجديد في الشعر.
جميع التعليقات 1
وديع شامخ
شكرا للعزيز المبدع طالب عبد العزيز على هذه الإضاءة النقدية والقراءة الجميلة لتجربة شاعر عراقي مغترب ، وهذا برأيي يدل على روح الفروسية من شاعر يُبشر بشاعر ويقرظ تجربته .. شكرا لياسين غالب على هذه التجربة التي استفزت شاعر بقامة عبد العزيز ..