شاكر الأنباري
لا يمكن فصل تأسيس جريدة المدى في بغداد عن المشروع الثقافي التنويري لدار المدى عموما. وقد انطلقت آنذاك في دمشق كدار نشر طبعت مئات العناوين المميزة، وأقامت كثيرا من المهرجانات ومعارض الكتب. وتزامن ذلك مع إصدار مجلتين مهمتين هما مجلة "المدى" ومجلة "النهج". وقد جاء انطلاق جريدة المدى في بغداد عام 2003 تتويجا لذلك المشروع المتميز عراقيا وعربيا، وفي سنوات رافقتها أحلام ضخمة لتغيير وبناء الإنسان العراقي من جديد.
ومنذ تأسيسها تبلورت لهذا المشروع رؤية واضحة عما يعيشه البلد، وتلك الرؤية هي التنوير، والحداثة، والانحياز إلى الشارع وإنسانه المقموع طوال عقود من الزمن. عمدت جريدة المدى إلى فتح النوافذ واسعة على الواقع العراقي الجديد، بجوانبه الثقافية والسياسية والفكرية، حيث فاقت حرية النشر في الجريدة مثيلاتها من الصحف التي صدرت في العراق، وجاءت متحررة نسبيا من الولاءات الحزبية، والطائفية، والقومية. فكانت صفحاتها الثقافية قد أشرعت على ثقافة العراق الوطنية الطامحة إلى التخلص من إرث الديكتاتورية وقمعها للرأي والرأي الآخر. كما سلطت تحقيقاتها المهنية الضوء على ظواهر المجتمع بحرية تامة، فيما ضخّت صفحة أفكار مختلف المقاربات في تناول الحالة الفكرية، والسياسية، والعلمية، سواء في بغداد أو المحافظات. وقد تميز معظم العاملين في جريدة المدى، ومنذ انطلاقها، بالمهنية العالية، وسعة الأفق، والثقافة الرصينة المنفتحة التي وجدت بيئتها المناسبة في أحضان الجريدة. إذ كان الطاقم، بكل تخصصاته، يسعى للوصول إلى حالة مثلى لمواصفات أي جريدة ناجحة. تتكامل فيها اللغة الصحافية مع الصورة والإخراج، وصولا إلى تنقية الصفحات من الأخطاء النحوية والمطبعية. وهو اهتمام قلما يجده القارئ في الجرائد الأخرى التي صدرت في تلك الفترة. وكانت الصفة الغالبة للجريدة بين القراء، والمهتمين، والمحترفين، هي أنها تمتلك مصداقية عالية، سواء في نقل الخبر أو التحليل. لا تضلل قراءها، ولا تحاول مخاطبة جهلهم أو استغفالهم. وظل التنوير هو الرسالة. كما جاءت تلك المصداقية من تحلل الجريدة من ولاءات ضيقة ظلت سائدة في معظم الصحف، لذلك كان طموح عدد كبير من الصحافيين الشباب، والمثقفين الجدد، هو العمل لدى الجريدة، فالعمل فيها يعتبر تزكية مهنية وفكرية وثقافية لمن يجد فرصة في مكاتب الجريدة. إن أي باحث يروم تتبع الأحداث بعد 2003، يمكنه أن يجد في أعداد جريدة المدى، منذ تلك السنة وحتى اليوم، بوصلة حقيقية لتفاعلات العراق على الصعد كافة: اجتماعية وسياسية وثقافية وفكرية.