TOP

جريدة المدى > عام > الدبلوماسية المائية في مذكرات حسن الجنابي

الدبلوماسية المائية في مذكرات حسن الجنابي

نشر في: 8 أغسطس, 2021: 12:11 ص

د. ياسر عبد الحسين

يقول الاديب فرانز كافكا: (في دفتر مذكراتك، تجد تلك المواقف التي مررت بها وتعتقد اليوم أنك قد لا تنجو منها لو حدثت، لكنك فعلت،

بل وكتبت عنها، إننا نزداد حكمة بتذكر أنفسنا في الماضي، وتذكر كل ما مررنا به وواجهناه بكل شجاعة)، وجدت هذه العبارة في صدر متحفه عندما زرته في براغ بعد ان زرت المقهى الذي كان يرتاده شاعر العرب الأكبر الجواهري.

ولهذا تحتل المذكرات وكتب السير الذاتية مكانة كبيرة في مكتبتي، لكونها سجل تاريخي مهم للأحداث، فضلا عن كونها توضح سيكولوجية الأشخاص وميولهم مهما كان الكاتب بارعا في وضع الحجب امام الحقيقة او تبرئة ساحة معينة او توضيح لموقف ما، سيبقى التاريخ حاكما لتلك الاحداث وانصافها، وعلى الرغم من فقدان الثقة بين القراء، واكثر المذكرات التي صدرت من قبل المتصدين وصناع القرار العراق ما بعد ٢٠٠٣ ، لكن الحكم الإجمالي غير منصف فعلا، ولا زلت احتفظ بكل ما يصدر من مذكرات وسير شخصية باعتقادي وخصوصا ما كتبته في أطروحة الدكتوراه عن دور القيادة في السياسة الخارجية، انها ترسم معالم التأثير الشخصي والنفسي فضلا عن المتغير العقيدي في رسم ملامح السلوك السياسي الخارجي والداخلي مهما كانت الملاحظات، لهذا طالما اسمع عبارة شهيرة وتتردد عندما يشاهد بعض أصدقائي قسم المذكرات والسير في رف مكتبة الشخصية: هل يقول الحقيقة؟.

كنت أرد: باني لا اعادي كتابا مهما كنت اختلف او اتفق معه، وثم دعه يتحدث ويكتب مذكراته، هذه الشجاعة في التصدي للحديث، يشكر عليها أي شخص كان ثم الحكم للتاريخ والرأي العام وللمذكرات والردود التي تصدر عنها لاحقا.

ولا أجانب الحقيقة إذا ما قلت ان الانصاف والاتزان مع الخصوم أبرز ما تضمنته مذكرات السفير والوزير الدكتور حسن الجنابي التي صدرت مؤخرا عن دار المدى في بغداد بعنوان (الدولة العقيمة تجربتي في حكومة حيدر العبادي)، والتي تشمل تغطية لحقبة سبعة وعشرين شهرا مهما في تاريخ الدولة العراقية من شهري اب ٢٠١٦ وتشرين الأول ٢٠١٨، ويواصل لاحقا بتقييم مراقب لحكومة الدكتور عادل عبد المهدي.

وهو ليس بالكتاب الأول الذي صدر للدكتور الجنابي، فقد قرات له ترجمة رائعة لكتاب العودة الى الاهوار للمؤلف البريطاني الشهير غافن يانغ، ثم عاصرته في ديوان وزارة الخارجية العراقية قبل تعيينه وزيرا للموارد المائية في حكومة الدكتور حيدر العبادي. 

تحوي المذكرات على تقييمات ومراحل عديدة اثناء تلك الحقبة، لكن فعلا وجدت ملفا مهما سيكون وبلا مبالغة تحدي العراق القادم بالمستقبل القريب جدا، بل عامل بقاء الدولة من عدمه وهو ملف المياه، وكما تميز أسلوب سعادة الدكتور الجنابي بالبساطة والصراحة والمكاشفة في مشروع سد الموصل، وأزمة المياه في العراق وتحديدا في محافظة البصرة، ومشروع ادراج الاهوار في لائحة التراث العالمي. 

عادة ما يميل ادب المذكرات الى استعراض البطولات والإنجازات الوصفية، لكن مذكرات الدكتور الجنابي فرضت نفسها بقوة كملف معلومات ثرية حول دبلوماسية المياه التي خاضها وتقديم الحلول المفيدة لصناع القرار في هذه الحكومة او الحكومات القادمة، فلم تكن المذكرات مجرد سجل لأحداث ماضية بل صورة مستقبلية خطيرة جدا عن ملف المياه المركزي في مستقبل هذه الدولة.

تبدأ الصفحات الأولى من المذكرات لوصف راهن لوضع العراق الجيوسياسي وطريقة التغيير والتركة الثقيلة للنظام السابق على وضع الدولة ومؤسساتها، ودور المعارضة العراقية آنذاك ثم مراحل التغيير والحكومات ما بعد الحرب والوضع الراهن الذي واجه تحديات داخلية وخارجية كان لها تأثير كبير للوصول الى الوضع الراهن (أنظر الصفحات ٣٣ وما بعدها). 

ثم جاء التكليف للدكتور الجنابي وزيرا للموارد المائية بعد ان كان سفيرا للعراق في اليابان، بعد ان تسميته مرشحا مستقلا في التعديل الوزاري، وكما توضح المذكرات تفاصيل عن اليات صنع القرار في البلاد، والعامل الشخصي والحزبي في توجيهها. 

وقبل التصويت على استيزاره كان الدكتور حسن على رأس لجنة تنفيذية لأدراج اهوار الجنوب على لائحة التراث العالمي، حيث عانت الاهوار من اهمال حقيقي منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، ولأسباب مختلفة من الحروب والفقر والامراض والعزلة فضلا عن التمييز الاجتماعي ( ص ٧٤)، ويتحدث الدكتور الجنابي مفصلا عن أهمية هذه المنطقة الحضارية والاقتصادية المهمة، وعلامة التحضر البارزة في المسيرة البشرية وكيف عمل حكم البعث على تدمير هذه المنطقة فضلا عن التشكيك بتاريخ أهلها واصولهم، وحتى مرحلة ما بعد ٢٠٠٣ فقد حظيت هذه المنطقة بوزارة بلا رؤية ضمن نظام المحاصصة ( ص ٨١ وما بعدها)، على الرغم من تخصيص مثلا في احدى السنوات ٣٥٠ مليون دولار دون ان يتحرك الوضع في هذه المنطقة الحضارية، وفي ظل الازمة السياسية والاحتجاجات في أواسط عام ٢٠١٦ توجهت الأنظار الى الاجتماع السنوي الأربعين للجنة التراث العالمي، وكلف الدكتور الجنابي على رأس لجنة بمشاركة عدد من الوزارات لهذا الملف المهم ومن بينهم السيد احسان العوادي رئيس دائرة دول الجوار حاليا وسعادة السفير د. عادل مصطفى السفير العراقي الحالي في مدريد، ثم يروي تفاصيل الاعتراض الإيراني على ادراج الاهوار على لائحة التراث العالمي بعد تشكيل لجنة من وزارة الخارجية العراقية للتفاوض مع ايران حول هذا الموضوع (ص ٩٥)، والذي كان يرى فيه الدكتور الجنابي اعتراضا سياسيا لا يتعلق بموضوع التراث الطبيعي، منها ضرورة تسمية الخليج الفارسي كما هو متعارف في الكتب والمصادر الأجنبية، وكذلك تسمية هور الحويزة الى هور العظيم، ولكن استطاع الوفدان الوصول الى كلمة بحر بدلا من الخليج للوصول الى حل يرضي الطرفين. (ص ٩٩). 

ثم يروي الدكتور الجنابي تفاصيل الاعتراض التركي على الملف، حيث قدموا مقترحات بسيطة لتعديل بعض الفقرات، تم الاتفاق عليها، لكن عاد الطرف التركي ليبلغ برفض الخارجية التركية لمسودة الاتفاق بين الطرفين، وثم تم الاتفاق مع الجانب التركي على الخروج من القاعة اثناء التصويت لكي لا يظهر الجانب التركي ضد تطلعات الشعب العراقي، وقد نجحت الدبلوماسية المائية للعراق بتسجيل الاهوار كحدث تاريخي مهم، لكن ينتقد الدكتور الجنابي ادعاءات البعض ان انعاش الاهوار هو سبب الجفاف الذي ضرب العراق لاحقا.

بعدها تحدث الدكتور الجنابي في مذكراته عن تقييم شخصية الدكتور العبادي في صنع القرار، وتتضح خصومة الدكتور الجنابي معه ويؤكد بأن مجلس الوزراء لم يكن منسجما في الفريق الحكومي، وكذلك تعامل الوزراء معه (ص ١١٣ وما بعدها). ويتحدث عن خلافه مع وزير الزراعة ورئيس الوزراء حول موضوع الجفاف الذي ضرب العراق لسنتين حيث كان الخزين المائي متدنيا بحدود ٤٠ بالمائة. (ص ١٤٣). حيث طالب الدكتور العبادي زيادة الإطلاقات المائية من الخزين لزيادة الرقعة الزراعية فيما رفض الدكتور الجنابي ووصفها بالمغامرة الكبيرة بالخزين الاستراتيجي القليل الذي يؤمن مياه الشرب للمواطنين. 

ثم يتحدث عن ازمه المياه في البصرة، حيث ان الوضع المائي تسيد أسباب الاحتجاجات الشعبية على الرغم من انه لم يكن السبب في انطلاقها وفق اعتقاد الدكتور الجنابي ويرى ان حصر الاحتجاجات بالوضع المائي لم يكن بريئا (ص ١٦٠)، ويرى ان واحدا من أسبابها هو التلوث في شبكات توزيع مياه الشرب الذي تملكه وزارة البلديات والاشغال العامة، واستخدام مياه شط العرب الملوثة وكسر الانابيب، وان كل الإصابات التي سجلت في احياء البصرة كانت من المناطق التي تحصل من محطات الاسالة الواقعة على شط العرب، و رأى فيها استهداف متعمد لوزارة الموارد المائية، وان الحل معقد لا يكون عبر الاطلاقات المائية التي تتعلق بحجم الإيرادات المائية من دول الجوار وكمية الخزين في السدود (ص ١٦٤)، وثمة تقصير في عدم انشاء محطة تحلية كبرى للمياه في البصرة.

ويقول الدكتور الجنابي في مذكراته في يوم ٢٥ تشرين الأول عام ٢٠١٧ زار الدكتور العبادي تركيا والتقى اردوغان الذي اكد أنه سوف يقوم بملء سد اليسو اعتبارا من اذار ٢٠١٨، وقد رد الدكتور حسن ان العراق يشهد نقصا حادا في المياه، وان املاء السدود لدينا يبدا في شهر أذار وينتهي في حزيران كل عام، وان هذا يشكل خطرا كبيرا، وقد ابلغ الجانب التركي تأجيل املاء السد حتى الأول من حزيران عام ٢٠١٨. ( ص ١٧٩)، ويعتقد الدكتور الجنابي ان هناك اهمال او انكار لشحة المياه متعمد والدليل على ذلك رفض رئيس الوزراء زيارته لدمشق خوفا من ان تفسر سياسيا باعتباره تنفيسا عن الحصار الدبلوماسي والسياسي للنظام السوري (ص ١٨٢)، ثم يعود لموضوع البصرة الذي رفض فيه رئيس الوزراء اصطحابه معه الى المحافظة، ورغم الخلاف بينهما يقول الدكتور الجنابي (ان أي رئيس وزراء غير السيد العبادي كان سيلجأ الى محاولة اقالتي من مجلس الوزراء بسب حدة الخلاف لكنه لم يفعل ربما بسب خصال إنسانية من الواضح انه مجبول عليها) (ص ١٩١)، وهذه ميزة تحسب للدكتور حسن الجنابي في مذكراته كما قلت في المقدمة هي الانصاف. 

ثم يتحدث الدكتور الجنابي عن نبتة زهرة النيل الضارة في البيئة العراقية وهي اسوء أنواع الادغال المائية، وكذلك عن موضوع القرض البريطاني المخصص في موضوع المياه، وكذلك عن عدم جدوى انشاء سد في شط العرب، مؤكد ان شط العرب هو ممر ملاحي دولي وليس قناة اروائية ولذلك يجب ان تكون مسؤولية إدارة هذا الممر الملاحي فيها جانبان الأول سيادي ويتعلق بوزارة الخارجية والحكومة ككل، والثاني يتعلق بوزارة النقل، وليست وزارة الموارد المائية (ص ٢١٩)، ثم ينتقل الدكتور الجنابي للحديث عن سد الموصل، حيث يرى تاريخيا بان انشاء السد كان يدخل ضمن تزامن انشاءه مع سد كبيان وسد الطبقة السوري على نهر الفرات، ويميل الدكتور الجنابي الى عدم تصنيف قرار النظام السابق بأنشاء سد الموصل ضمن السياقات التأمرية السياسية للنظام على حساب المصلحة الوطنية، (ص ٢٢٨)، وان سد الموصل صمد منذ عام ١٩٨٦، وقدم خدمات للعراق في حالتي الجفاف والفيضان ويشرح الدكتور الجنابي بالتفاصيل عملية بناء السد وميزاته، وعن تسرب الاخبار حول وضع السد واحتماليه انهاره وبقي منسوب المياه في السد بحدود ٣١٩ مترا وصولا الى عام ٢٠٠٧ ليصبح ٣٢١ مترا بناءا على استشارات مكثفة مع المختصين ( ص ٢٣٧)، حيث كان الموقف الحكومي على العموم مرتبكا بين الضغوطات الدولية والخصومات السياسية الداخلية، لكن الضغوطات دفعت الحكومة الى التعاقد مع شركة تريفي الإيطالية والحصول على قرض من البنك الدولي، وثم كان الرعب باحتلال داعش السد لمدة ٤٥ يوما، قبل استعادته من قبل جهاز مكافحة الإرهاب وقوات البيشمركة، وقد تفاعلت القضية الى ان قام وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري بتسليم رسالة للدكتور العبادي يدعوه الى اتخاذ خطوات حاسمة في موضوع السد، حيث باشرت الشركة لاحقا في ٢٠١٦، ويروي الدكتور الجنابي تفاصيل فينة وإدارية حول السد ونظام التعاقد مع الشركة، الذي وصفه بانه كان نتاجا حقيقيا للدولة العقيمة التي تتوزع فيها المسؤوليات بعشوائية على حد وصف الدكتور الجنابي ( ص ٢٥٦).

ثم يتناول الدكتور الجنابي في الفصل الأخير من الكتاب حكومة الدكتور عادل عبد المهدي، وطبيعة التقاطعات مع الجانب الأمريكي عقب عملية المطار ولم يقم بزيارة واشنطن، وعلى الرغم ان حكم عبد المهدي في بداياته كان شبه واعد بفتح افاق أفضل للبلاد، (ص ٢٧٨)، ثم قيام الاحتجاجات في العراق.

وبالنتيجة قدمت مذكرات الدكتور حسن الجنابي دبلوماسية المياه بطريقة تختلف عن المذكرات التي اقراها بطريقة استعراضية، بل حاولت ان تكون موازنة بين الاحداث والمواقف والشخصيات وبين الاحتواء على معلومات مفيدة تظهر الخبرة الكبيرة لسعادة الدكتور في الموضوع الأكثر خطورة في مستقبل هذا البلد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

أوليفييه نوريك يحصل على جائزة جان جيونو عن روايته "محاربو الشتاء"

مقالات ذات صلة

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر
عام

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

حاوره: علاء المفرجيرواء الجصاني من مواليد العراق عام 1949، -أنهى دراسته في هندسة الري من جامعة بغداد في عام 1970، نشط في مجالات الاعلام والثقافة والفعاليات الجماهيرية داخل، -العراق حتى العام 1978، وفي الخارج...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram