TOP

جريدة المدى > عام > العالم كولاج

العالم كولاج

نشر في: 8 أغسطس, 2021: 11:48 م

علي النجار

(لقد جمعت إكليلًا من أزهار رجال آخرين، لا شيء لي سوى الحبل الذي يربطهم).

الفيلسوف الفرنسي(مونتين)

(بقدر ما يفوز المنظر، يخسر العالم، لأنه يبدو أن المرء قد قرر كل شيء مسبقًا).

فريدريك جيمسون

(إن الكولاج يسمح لنا بتجربة المعلومات في وقت واحد ... كسحابة أفقية)

لورا هوبتمان

المنسقة السابقة لمتحف الفن الحديث في نيويورك.

لم تغادر مخيلتي صور شيوعية الصين في كتابها الماوي الأحمر وزيها الموحد، وشيوعية الاتحاد السوفيتي في الأعلام الحمراء والعامل البروليتاري بوقفته المعروفة. لكن أن تنفتح الصين على السوق العالمي. وان تفتح أبواب الكتلة الشرقية على مصراعيها للريح الغربية، فالـ(هجنة) هنا ما هي الا التلصيق(الكولاج) بعينه، ما دامت لا تزال تحتفظ ببعض من إرثها السابق، ولو بنسب معينة، وهي الساعية لمنافسة ما بعد الحداثة الكولونيالية ببعض من مفاصلها، رغم أن بعضها لا يزال محافظا على نظام الدولة المركزية(الشمولية نوعا ما) مغلفة بديمقراطية غير مكتملة شروطها التفاعلية الاجتماعية، ما عدى شروط السوق العالمية ومحاولة اختراقها، سواء بالوسائل الناعمة، أو الخشنة. بما يعني أن السياسة والاقتصاد والثقافة التي نعيش مخاضاها اليومي أصبحت نوعا من ثقافة عامة تبني أفعالها وتصرفاتها على فعل القص واللصق. لأنها مرتبطة رسميا بـ(التباين، واضطراب التمزق) كما يذهب (زوبوك).

منذ حوالي(200 ق م.) كانت الصين السباقة في تقنية القص واللصق في أشكالها المبسطة. لكنها لم تصبح وسيلة اتصال فعالة حتى تم اعتماد وسائط الاتصال التي لا غنى عنها، كالوسائط المطبوعة على نطاق واسع خلال المراحل المبكرة جدًا من الحداثة من قبل فناني أوائل القرن العشرين. وبفضل فنانين من أمثال بابلو بيكاسو وبيتر بليك، تطورت تقنية الكولاج إلى نمط جديد من الفن الحديث على مدار ذلك القرن. ومنذ ذلك الحين أصبح الفنانون يصنعون من الكولاج أعمال تساير الأحداث والاتجاهات والثقافة الشعبية. مثلما تميز بعضها بعناصر سريالية عملت على تحدى تصوراتنا للعالم الذي من حولنا، كأعمال حلمية، أو عبثية او اعتراضية كسابقتها(الدادا).

بالمقدرة على اجراء قص نظيف، وفي نفس الوقت تجنب الفوضى، يمكنك الحصول على كولاج في مكانه بالضبط. اذ لم يعد العمل الإبداعي هو مجرد انشاء للفعل فقط. بل، بدلا من ذلك يتم اختيار وجمع وترتيب وقطع ولصق ما هو موجود. ولتحقيق الاغراض الفنية، بالإمكان السعي للحصول على الأفضل أولا، ثم العرض والتعليق عليها واستخدامها كعمل واحد أو كأجزاء. وهذا ما تم فعله من قبل الكثير من الموسيقيين والمصممين والكتاب والمدونين الذين هم الآن فنانون مدربون على التجميع، ولهم تواقيعهم المضمنة في أعمالهم. وليتحول الكولاج من مجرد فعل فردي ماض، الى ثقافة شاملة(ثقافة الكولاج) لها أصولها ومعانيها وادواتها الجاهزة المتوفرة في تقنيات خط التجميع وأشكال وسائل الاعلام والتخطيط والاعلان. رغم أن هذه الثقافة لا تزال لم ترتقي الى نظرية محكمة. بما أن البعض يفضل استعمال تجميع الأفلام والأدب والموسيقى والرسم والتصوير الفوتوغراف المستل من فترة الطليعة التاريخية حتى آخر تطورات ما بعد الحداثة. في الوقت الذي يفضل الآخرون الأدوات الرقمية.

بالنسبة للاستهلاك فقد بات الكولاج في زمننا هذا المصدر المهم المسخر لصياغة أو إعادة صياغة ثقافة المستهلك، من خلال تشريعه للعمليات الدقيقة للإنتاج والاستهلاك الضخم واختراقه لإمكانيات وتحديد ثقافة المستهلك التي هي الأهم، في نفس الوقت الذي يمارس فيه دوره النقدي، كما ايديولوجية شمولية تنشر ظلالها على امتداد الكرة الأرضية. فأسلوب الكولاج وتقاليده مناسبة بشكل طبيعي للتعليق على السياسة والثقافة، وكما هو حادث يوميا.

بدلاً من صراع (الايديولوجيات) الذي خفت صوته، أصبح الكولاج بمفهومه وفعاليته العامة هو الأساس في مجال التعبير عن المعاني البديلة. فالكثير من الأعمال المعاصرة تضمر في تفاصيلها صراع وجودي لتجارب جسدية. أما فيما يتعلق بالمواد الموجودة في مادية أو مأدبة القص واللصق. فأنها ومن خلال أداءات(الذكاء الصناعي) اليوم بشساعة معلوماته المتكاثرة والمتناسلة باستمرار مرورا على عمليات(التكثيف والتمثيل)التي أتاحت لنا حيزا كبيرا من التنبؤات لمجموعات من المعارف البشرية المصنفة، كما عن الأمراض، وثقافة المواد، ومجموعات الصور المدمجة في مجموعات واسعة من القيم التي تم فحصها ودمجها، كمعارف ومواد جديدة. ويبدو ان الذكاء الصناعي، أصبح مثل دوريات المجلات المصورة، أو الصور المتحركة التي تخضع نفسها لإعادة التركيب المادي.

مقتبس:

(في فيلم صمت الحملان، حيث يقوم بطل الفيلم (بافالو بيل) فعليًا بتقطيع ضحاياه، مع أخذ قطعة من جلد كل منهم لصنع(تجميع) بدلة نسائية مرقعة. بما أن مكتب التحقيقات الفيدرالي

يكتشف الجثث التي تم تمييزها بوضوح على انها أشياء جمالية، فانه في نفس الوقت واجه لغزا تأويليا، وليعمل من خلال هذا اللغز الجمالي في تجميع مجموعة واسعة من الأجزاء: خرائط، رسائل، مقابلات، صور فوتوغرافية، ملاحظات، وأجزاء متنوعة أخرى مرتبة).

إن أقصينا العامل الداخلي الذي حرك البطل هنا لفعل فعلته(كما فعلها العراقي أحمد السعداوي في روايته فرانكشتاين في بغداد) في جمع الأضداد(الممارسة الوحشية.. والفنطازيا في آن واحد) وكتجربة لجمع أجزاء، أو تجربة معلومات مختلفة أو متناقضة في كما فعل كولاجي: حيث(يبدأ تصوره في الذهن، لينتهي في اللصق والتنسيق وصنع النتائج.).

في (قانون الرأسمالية العالمية) يتحدث الفيلسوف والفنان من خلال الكولاج أو التجميع المعاصر للأشياء والممارسات، ومصير الأشياء. فيما لو نظرنا الى الأدب في سياق الفلسفة والتاريخ والفنون المرئية والبيئة والثقافة المادية وتقنيات الوسائط من خلال ممارسة أو فعل ربط أي شيء معا، كما فعل(تريستان تزارا، أندريه بريتون، عزرا باوند، والتر بنجامين، ويليام س. بوروز، د. غريفيث، جون كيج، كينيث جولدسميث، آندي وارهول، ستيف توماسولا). لكن علينا الانتباه أيضا لما حدث من ربط للممارسات الفنية والعلاقات الاقتصادية المختلفة التي وضعت قرننا السابق والحالي في بؤرة التركيز على الفعل الكولاجي بشكل فريد، كما في مجال خطوط التصنيع الشامل والعمليات الأخرى التابعة والمرتبطة به. وحيث ينظر الى تقنيات الكولاج على انها احدى العلامات الرائدة النهائية، لكونها الأنماط الجديدة للإنتاج الضخم وثقافة المستهلك. وليدعوا، أو ليدرك الناس بأن الثقافة التي تحيطهم هي مجرد قص ولصق، من فابريكة التصنيع الى مجال التسويق. حيث باتت النسخة الرقمية، والنسخة الافتراضية هي العلامة الطليعية.

يبدو الآن أن الكولاج يحمل بعض السحر الغريب الذي حملته تقنيات أو علوم التوضيح في القرن التاسع عشر للسرياليين .. إنه لأمر مدهش حقًا أن العديد من فناني الكولاج المعاصرين لا يعملون في المواد المعاصرة ولكنهم يتحولون بدلاً من ذلك إلى أرشيف ثقافة الطباعة في القرن العشرين لينهلوا منها. فالحنين بات كبيراً لتلك الثقافة المادية لكونها عرضة للتلاشى.). مما يجع هذه الأعمال تكتسب سحرها المضاعف. وهكذا فليس غريبا ما نشاهده من كثافة أعمال فناني (الدادا الجديدة) بلغزها الزمني المعاصر وعلامات استفهامها المثيرة للريبة أو القبول. فهل هو مجرد حنين للماضي، كما يثار أحيانا. أم هي الفلسفة الجديدة، امبريالية الثقافة، أو ثقافة الإمبريالية. وهو عصرنا وقدرنا أن يتحول التلصيق والجاهز الى ثقافة مركزية يتشابك فيها النقد والحنين الى الماضي في آن معا.

تحدي الخيال: من الواقعية إلى الدادائية والسريالية

علق الفنان الطليعي(مارسيل دوشامب) على عمله(عجلة الدراجة) بأنها تشبه ألسنة اللهب المتوهجة نارا، والتي في نفس الوقت انتجت أو أثارت لديه نوعا من أحلام اليقظة. اذا هو هنا يضع العجلة في داخل حركتها الفعلية، وكنوع من حركة أو ديناميكية مضاعفة (عاطفية). وهذا يحيلنا أيضا لثقافة(البانك) الفرعية الأمريكية والانكليزية(التي اعترضت على ثقافة الهيبز وسلوكياتها وأزيائها ونفورها من التيارات السائدة) على إنتاج عدد كبير من الزينات، كما شعارها(اعمل بنفسك) حيث المقص الوسيلة لإنشاء الوسائط البديلة. كما مثل مجلة(فوتو ستاتيك) التي أعادت إنتاج أعمال مجمعة ما بين الأعوام( 1983 ـ 1998). لتعيد لذهننا تكنولوجيا مصممي وسائل الاعلام التجارية للنصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولنعيد الملاحظة مرة أخرى بأن أعمال الكولاج الحديثة تبدو كنوع من الشوق لتلك الفترة الماضية وجمالياتها في عالمها المطبوع.

بين هذا وذك، لننظر لفعل الكولاج السياسي(كما عند همنتنكون، وفوكوياما)، وما أفرزه من ديمقراطية شرق أوسطية جديدة في مثلها الأبرز، حكومة ما بعد الاحتلال العراقية. ولنرى كم رقعة(بالمعنى الشعبي المتداول) رقعت بها هذه الحكومة. وكيف فعل هذا الكولاج الحكومي فعلته في تفتيت مرافق الدولة من خلال توزيعها مناطقيا وطائفيا. ولنا عبرة في هذا الفعل التلصيقي السياسي. بما أن السياسة فن الممكن. فهل هو هذا الممكن الوحيد. أو أصبح الأوحد. لكنه التلصيق الاقتصادي العولمي من فرض سطوته وبإذعان ذليل.

رجوعا للثقافة العامة. يبدو أن الكولاج قادر على إعادة تنشيط ثقافتنا المادية بأكملها بطرق مقنعة. لننظر للأفعال الثقافية ومنها الفنية. حيث أرشيف الماضي، كمواد متنوعة للغاية تم تجميعها بطاقتها المرئية، وليكون بعدها الجمالي مثار بحوث الطليعة النقدية. فكل ملصقة ما هي الا نوع من الطرح الجدلي للنقد والحنين. بالوقت الذي لا تخضع لديالكتيك معين. ولكنها(أعمال التلصيق الفنية والأدبية والفلسفية) خاضعة خضوع تام للتوتر الدائم الحركة، اذا ما لاحظنا مجمل التوترات التي تمر بها التراكيب وتوازناتها. فلا يزال الكولاج يعمل بشكل نقدي من خلال اقحام الأيديولوجيا. مع ذلك فلديه القدرة على انتقاد محتواها، دون المس بشكلها، بما انها تعتمد على ثقافة المستهلك. بل كما في الستينات حيث كانت حركة(فن البريد) في بدايتها. مبنية أساسا على الكولاج المرسل.

ليس غريبا أن يبدو الكولاج كما الجين البشري تحت المجهر، حيث لا عرق ولا دم صاف كما تدعية الأحزاب والفئات العنصرية. وبخاصيته التجميعية فقد حقق مكاسب كبيرة لثقافة ما بعد الحداثة، وما بعدها أو بما سمي بـ(عصر الترانسيت) حيث نتخلص الآن من، أو في سبيلنا للتخلص من سخرية ما بعد الحداثة، أو هكذا يبدو الأمر. وبما ان العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ينتمي للكولاج الذي يتوافق وثقافته في عدم ثوابتها، باعتبار العمل الإبداعي خلقا غير فريد(كما ثوابت الحداثة). لكن الكولاج وكفن غالبا ما يربك الدماغ بمكوناته المتباينة، التي تحقق اغراضه وترتفعها للسطح. من خلال اعادته لصياغة اللمسة والملمس وواقع العالم الذي نعيش فيه. وكذلك لعمله على جسر الوسائط وتسطيح الوقت، كما أنه يمتد الى ما وراء ما يحيط بنا مباشرة. مثل الشاشات المسطحة التي تبث الصور الرقمية المجمعة المتغيرة الألوان، والتنسيقات الجمالية الأخرى التي تحدث على سطح الويب. ثقافة أنشأها الناس من أجل الناس. ويمكن حتى للهواة الاشتراك بها. لكن ليس كل ما ينتج من فن الكولاج هو مرآة للعالم كما نعرفه. أحيانا ما يلائم الفنانون جوانب من الواقع يشوهونها من اجل خلق أكوان موازية تتحدى تصورنا للواقع. وهنا يكمن بعض من لغز ثقافتنا الحالية!.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

أوليفييه نوريك يحصل على جائزة جان جيونو عن روايته "محاربو الشتاء"

مقالات ذات صلة

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر
عام

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

حاوره: علاء المفرجيرواء الجصاني من مواليد العراق عام 1949، -أنهى دراسته في هندسة الري من جامعة بغداد في عام 1970، نشط في مجالات الاعلام والثقافة والفعاليات الجماهيرية داخل، -العراق حتى العام 1978، وفي الخارج...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram