طالب عبد العزيز
لم تؤسِس الصحافةُ الوطنيةُ منذ وجود الدولة العراقية بمعناها السياسي، في عشرينات القرن العشرين مشروعا إعلاميا واضحاً، من شأنه قراءة الواقع العراقي والتساوق معه على وفق قاعدة تعي أهمية إقتران بناء الدولة بالاعلام، ولم نلمس فيه عمله على إبرازُ قضية معينة،
باستثناء الصحافة الحزبية- الضيقة بما توسعت به- والتي غالباً ما تدور في فلك برامجها الخاصة، التي يشكّلُ المستهدفَ الاولَ فيها أفرادُها، على خلاف ما عملت عليه الصحف العربية في مصر والشام وغيرها، التي تبنّت بعضها مشاريع وطنية، واضحة المعالم، واسعة القاعدة، إنما ظلت الصحافة لدينا اسيرة الطموحات الشخصية، والمشاريع الضيقة، التي لم تفصح عن هوية جامعة معينة، وهذا يتداخل مع جملة اسباب لعل ابرزها تركيبة المجتمع العراقي الصعبة، والظروف السياسية التي سادت وما تزال، والتركيبة الاجتماعية المعقدة وغيرها.
ومن وجهة نظر خاصة نرى بأنّ الصحافة العراقية لم تتجاوز الصورة النمطية تلك، حتى بعد انهيار النظام السابق، واستقدام الديمقراطية، ومنح وسائل الاعلام الحرية المطلقة في قول كل شيء، فضلاً عن ما أتيح لها عبر الفضاء الالكتروني، الذي اشبع الحياة بحثاً وتناولاً تجاوز الحدود الوطنية الى التطرف والمغالاة، لكننا لم نعثر في ذلك كله على رؤية ستراتيجية واضحة، تأخذ على عاتقها مسؤولية بناء المجتمع العراقي، والنهوض به بعيداً عن ما يعتمل داخله من مشاكل وتقاطعات، بهدف النهوض به، وجعله على الطريق الصحيح، والعمل على انقاذه من كل ما تعرض له من امراض، ومحن، ومصائب أتت على لُحمته، وفككت نسيجه الاجتماعي، وازهقت روح المواطنة فيه.
قد تصلح (الطللية) هذه مدخلاً للكتابة عن علاقتي بـ(المدى) الجريدة، التي واكبت عن بعد مسيرتها منذ خطوتها الأولى، فقد أشعرني صديقي الشاعر عبد الزهرة زكي، الذي عمل في مجلسها التأسيسي بتوقيت صدور عددها الاول، يوم زارنا في البصرة، متحدثاً عن مشروع وطني إعلامي وثقافي كبير، تقوده نخبة هم صفوة الثقافة والاعلام العراقيين- لا مجال لذكر الاسماء- فهم معروفون عند العامة والخاصة، وفي بحر اشهر قليلة صدرت الاعداد الاولى، والتي كانت بحق مشروعاً اعلامياً رائداً، استمد فتوته من أكثر من جيل، عملوا في الصحافة العراقية، في ازمنة مختلفة، تباينت آراؤهم، وتشعبت توجهاتهم، وتقاطعت أفكارهم ربما، لكنهم اجتمعوا على بناء صحيفة مختلفة، صحيفة تعبر عن وجهة نظر عراقية، بعيدة عن التخندق السياسي والطائفي، لا تجاهر بقول الكلمة الصادقة حسب، إنما تتجاوزها الى تعقب أصدائها في المديات.
تأتي أهمية (المدى) من كونها ليست مشروعاً شخصياً، مرتبطاً بصاحبها ومالكها السيد فخري كريم، فهي لا تملك هوية شخصية لأحد، على الرغم من تعدد رجال إدارتها، وحتى بعد تقاعد أو تواري وربما موت البعض من اعضاء جيلها التأسيسي الاول، إلا أنها حافظت على خطها العام، في رسم مؤشر بياني وطني لا يحيد، فلم تتصدع، ولم تخضع للأهواء، ولم يتمكن طرفٌ بعينه من استمالتها، على الرغم من الظرف السياسي والاقتصادي، الذي عصف ويعصف بالعراق الى اليوم، ولم يتأثر خطابها العام، اللهم إلا من تقليص في عدد الصفحات واختفاء بعض الملاحق وهذا بسبب أوضاع البلاد الاقتصادية لا غير.
ومن وجهة نظر شخصية أجد أنَّ صلابة موقف(المدى) الجريدة من الاحداث، وثباتها على مواقفها الوطنية، وريادتها للمشروع الحداثوي والتنويري العراقي إنما يأتي من أنَّ معظم نساء ورجال الجيل التأسيسي الاول كانوا من الأدباء والصحفيين والمثقفين الشيوعيين، ممن عرفوا بمواقفهم الوطنية المخلصة، فضلاً عن ثقافتهم الرفيعة. اليوم، ونحن نحتفل بصدور العدد 5000 للمدى ليس بوسعنا أن نقول: يصدر عددها هذا لتؤكد بأنها ستظل رائدةً في صوغ مشروع إعلامي وطني حضري مديني، غايته الانسان، وهدفه المستقبل المشرق، من أجل محو الصورة النمطية الظاهرة عنه في وسائل الإعلام الاخرى.