جمال العتّابي
لم تخطىء أمك حين سمّتك (ريسان)، فانت في معاجم اللغة، تعني تبختر الرجال، والقائد، والغالب، وتعني كذلك، تبختر الأسد،
وكما أظن ليس بوسع هذه التسميات أن تضيف لك شيئا، لكنني أعتقد أن واحدة منها، ترسبت في أعماقك،
وتماهيت معها بلا شعور منك، (التبختر) هي وحدها، من فرط إكتمالها فيك، بوسعها أن تضيء حياتك، لكن أين؟ ومع من؟ وبأي مستوى،؟ انها في الناي الذي تعزف به أناشيدك، فأنت يا ريسان القادم من (الهدام)، إلى المدينة، لا تحمل معك سوى جِرار من ماء (الهدام)، في العمارة جنوب العراق، من روافد ومصبات آل زيرج، والميمونة، وأهوار العودة، ونهر أبو فحل، فتعمق إحساسك بالماء، وتشبثت بجذوره الطينية،
الهدّام نهري وطفولتي
وانت في متحف الانهار
كيف إهتديت إلى النهر والنهار؟
أبا طيف : أشعر أن مئات المدن، ومئات الانهار، وآلاف من أعواد القصب والبردي، والطيور تعيش في قلبك، ها أنا دائماً أقف أمام نصوصك في الشعر، والشعر الشعبي، منصتاً، متأملاً، مندهشاً، وأتساءل :من أي نافذة تأتيك الكلمات؟ من أي باب نمدّ يدنا إليك، ربما تصنع بالكلمات شيئاً من حزننا، وإنكساراتنا، وفرحنا، وأملنا، لكنك تشعرنا ان العالم كله يعيش بيننا، كيف تجمع الماء، والريح، والهوى، والطين لتبني لنا بيتاً، توقد النار فيه إنتظاراً لحلم جديد، يا ريسان :حتى وانت في حالات غضبك الليلي، تترقب الصبح ليشرق في وجهك، مبتسماً خجولاً ، تستعيد صورتك التي أينعت وإزدهرت بعطر قصائدك :
ينشاف طولك رجفة بالمفتاح
جرفين النهر.... لو ما الماي مابيه روح
وخرزتي الوردية تاهت فوك حز النهد يسمر....
والعشك كله لعب حز
جدمك راهم بكاشي الممر
هذا حزني الليله ماي، جانت الجامة نهر
حتى الخيال إمن الفرح لابس دلع ثوب أحمر
وبكسرة الكذله الفرح يتشلبه
وبخيط ارموشك متوزرة
حزامي أترف من جف إمعرسه
هذه المقاطع لاتنتمي لقصيدة واحدة، انها من مئات. الأمثلة التي يفيض بها الخزعلي، بالمشاعر الدافقة، بمزيج من الغناء والحب، والهمس، والإنغماس في الحياة، معتمداً موهبته، واقترابه الحميم، من المفردة المشحونة بأقصى درجات العاطفة. أي جلال هذا الذي يحيط بإبن (الهدّام)؟ أي سمو هذا الذي دعاك أن تحلق دائماً في الأعالي بأجنحة تخفق بعوالم فسيحة، وبأنفاس طيبة متواصلة لا تنقطع، تغمرك غبطة الكتابة، فهي فردوسك الأثير، فأية عذوبة مشحونة بالإمتلاء والدهشة، تحملها، قصائدك؟، من أين لك كل هذا الجمال؟ وأية إحتفالية يمكن أن أقيمها بما هو مخفي بين حروفك؟
ثمة منعطفات ومحطات مهمة في حياة ريسان الخزعلي، لم تكن خفية لدى المتتبع أو الناقد لآثاره الإبداعية، لم يكن كاتباً عابراً، ولن يكون فكره كذلك، الذي أهله ان يكون دقيقاً، صارماً في آرائه النقدية، بصلابة الموقف في خضم المعترك السياسي والثقافي، خصماً لأشكال التخلف والجمود في الفكر والثقافة، مراهناً على التجديد والتنوير بأسلوب حضاري، في كل الأجناس الأدبية التي كتب وأبدع فيها. فأضحى علامة متميزة في حركة الشعر العراقي.
ريسان (ظل يمشي على الماء*) ، ترافقه حشد من الصور اللامعة، تشبه شلالاً، صور تبهر وتجذب، انها مقطوعات متوهجة ثرية، عميقة الأثر، بعمق تجربته وغناها الفكري والسياسي، وهي فضاء عام يتلاعب فيه بالذائقة الفنية، يكتشف المعاني الإنسانية عبر ما أنتجته عقليته المتفتحة.
من حقك ياريسان أن تتبختر! فأنت نسّاج شعر، وساحر، يلزمنا صوتك، وروحك الشّابة، لكي نكتمل فيك، ونضمن مواصلتنا الشوط.
.............................
* أنا الظل الذي يمشي على الماء.... مقطع من قصيدة (مصرع العنقاء) لمحمود درويش
Sent from Yahoo Mail on Android