لطفية الدليمي
يعرف المهتمون باللغات الأفروآسيوية أو مايدعوه البعض « اللغات السامية « مدى موازنة هذه اللغات بين المفردات المذكرة والمؤنثة وبخاصة لغتنا العربية أكبر اللغات الأفروآسيوية وأكثرها اكتمالاً وأحدثها ظهوراً ؛
فهي تؤنّثُ معظم ظواهر الطبيعة كالشمس والسماء والكواكب والمجرة والأرض والعاصفة مثلما تؤنّثُ الأحداث الكبرى في الحياة الإنسانية كالولادة والوفاة والحرب والهدنة والاتفاقية والمعاهدة ، ولا تتوقف عند هذا الحد من غلبة التأنيث فتؤنث الحكومة والوزارة والمملكة والامبراطورية والمدينة والمكتبة والمستشفى والمدرسة والجامعة والكلية والأكاديمية ، وتمضي إلى أبعد من ذلك فتؤنث معظم جموع التكسير المتداولة في لغتنا الفصحى والعامية كالأنهر والوديان والأنجم والأوجه والأقوام والأبواب والأشجار ، كما تتقاسم أعضاء الجسم التأنيث والتذكير مناصفة فيها .
حدث في أحد المؤتمرات أن اشتكت ناشطات نسويات من وطأة نون النسوة وثقلها على اللفظ في لغتنا ، وتصدّت المتشددات منهن لذمّ هذه النون وطالبن بإلغائها لظنهن بأنها تنطوي على نوع من التمييز اللغوي بين الذكور والإناث ، وفي الضجة التي صاحبت مقترحهن قدّمت أكثرهن حماسة أدلة تسند ادعاءها من آراء بعض الأكاديميين الغربيين القائلة بوجود تمييز بين المذكر والمؤنث في اللغات السامية .
يتناقض موقف هؤلاء النسوة مع النسويات الغربيات اللائي طالبن طويلاّ بتأنيث لغة الخطاب الرسمي والأكاديمي والتي لطالما كانت تخاطب المذكر طوال العصور ، واقترحن صيغة تخاطب الجنسين معا : “له/ لها، معه/ معها، إليه / إليها.. الخ”، وكان لهن ما أردن ، وبدأت بعض الدراسات والبحوث الاكاديمية العربية بتقليد صيغة هذا الخطاب .
تيقّن من استمع إلى خطاب هؤلاء السيدات أن معظمهن لم يطلعن على كتاب الباحث الراحل هادي العلوي المعنون ( فصول عن المرأة ) الذي ضمّنه فصل ( قاموس المرأة ) المستل من مؤلَفه الكبير ( القاموس العربي المعاصر ) . يقول العلوي وهو العارف المتعمق بأسرار لغتنا العربية « إن تقاسم التذكير والتأنيث بين مفردات اللغات السامية وأدواتها مناصفة إنما يعود إلى المكانة التي تمتعت بها المرأة في الحضارات السومرية والأكدية والبابلية والآرامية والفينيقية وهي حضارات شرّعت في بواكيرها لنظام المشتركات الاقتصادية الأولى ، ومن تلك النظم الأولى احتفظت المرأة بمكانة مرموقة ظهرت بوضوح في التشريعات التي اعتمدتها تلك الحضارات كما انعكست على ظاهرة التأنيث في اللغة وهي ظاهرة تفتقر إليها الكثير من اللغات الحية في عالمنا.”
وهذا ما لم تعرفه السيدات اللواتي جاهرن بعدائهن لنون النسوة ؛ فقد جانبن المروءة في الحكم على اللغة بمرجعية من خارجها وربطن لغتنا بما هو ذكوري عنيف دون البحث في جذور موضوعة التأنيث والتذكير فيها.
ولعل معظم الداعيات لإلغاء نون النسوة إعتبرن أنّ التحرر المجتمعي يتم في التطابق مع الذكورة ، وحصرن موضوعة تحرر المرأة بالشكليات كنون النسوة ؛ ولكنهن لم يلتفتن لموضوعة ذات أهمية اعتبارية وهي إلحاق المرأة بالرجل في المجتمعات الغربية ؛ إذ ما أن تتزوج المرأة حتى تتخلى عن لقب عائلتها وتتخذ لقب زوجها ، بينما تحتفظ المرأة العربية بكيانها الاعتباري ولقب عائلتها بعد الزواج .
لطالما كرمت التشريعات البابلية والسومرية والأكدية مكانة المرأة واحتلت الانثى مراتب عليا في مجمع الالهة ؛ لكن تواتر الغزوات الاغريقية والاخمينية والمغولية تسبب في تغيير أعراف المجتمع ، ومالبثت الذكورية أن تعاظمت في الفترتين الأموية والعباسية عندما اتسعت الدولة وازدهرت اقتصادياً وجيء بالجواري والسبيات من أطراف الإمبراطورية وجرى تثقيفهن وتدريبهن على الموسيقى والغناء وقول الشعر ليتربعن على عروش مجالس الخلفاء وقلوبهم ؛ فتراجعت آنئذ أدوار الزوجات والأمهات وفقدن مكانتهن الرفيعة التي تمتعن بها من قبل ، ثم تلاعبت تفاسير الفقهاء الرسميين بكل الأعراف والتقاليد الاجتماعية المنصفة خدمة لسلطة الخليفة وتعزيزاً لذكورية المجتمع.
جميع التعليقات 1
هشام الشيخلي
مقال جميل دكتورة لطفية. أحببت أن أضيف أن منح أسم عائلة الرجل الى الزوجة قد أثير في الولايات المتحدة وأوربا في الثلاثين سنة الأخيرة حيث وافقت المحاكم على إقران أسم عائلتي الزوج والزوجة كأسم عائلة جديد لكليهما، كخيار وليس فرض. كل التقدير.