ستار كاووش
فتحتُ نافذة المرسم الذي يطل على مزرعة كبيرة، فتعثر بصري بمجموعة من أبقار جاري العجوز فرانس، أبقار تجاوز عددها الأربعين بقرة، جميعها مرقطة بالأسود والأبيض، كبقية أبقار هولندا بشكل عام. نقلت بصري بينها وأنا أراقب إلتماعة ضوء الصباح على أجسادها، وبخار الماء الذي أخذَ يتصاعد مع الدفء الذي خلَّفه ضوء الشمس، حتى بَدَتْ الأبقار التي في خلفية المشهد شاحبة وتكاد لا تُرى وسط الغبش، وكأنها تحاكي لوحة (أكوام القش) التي رسمها مونيه في قمة إنطباعيته.
وفي اللحظة التي خفضتُ فيها بصري بإتجاه حافة النافذة الخشبية الزرقاء، خطر في ذهني شيء غريب جداً، لذا عدتُ مسرعاً أُمَرِر بصري من جديد على قطيع الأبقار، فتأكدتُ بأن ما لاحَ في خاطري لا يمكن تجاهله، وخاصة بالنسبة لشخص مثلي مهتم بالأشكال والألوان وجُبِلَ على حب الطبيعة والإنغماس في تناغماتها التي تنعش العين والقلب والمخيلة.
كان شيئ غريب حقاً، ورغم أنه بدا بديهياً وبسيطاً وعادياً، لكنه اوقفني مثل الصاعقة وثبتني في مكاني أمام هذا الحشد من الأبقار التي تبدو متشابهة. هل قلتُ متشابهة؟ نعم انها تبدوا كذلك بالشكل والحجم واللون، لكنها توضحت لي على حين غرة، كم هي مختلفة عن بعضها تمام الإختلاف، لدرجة لا تتشابه فيها بقرتان من ذات القطيع، فقد كانت الرقطات السود والبيض التي علتها جميعاً مختلفة، وكل بقرة تحمل رقطاتها المتفردة. نظرتُ الى الأبقار مرة أخرى، وأنا أتفحص الرقطات التي نثرتها الطبيعة على أجسادها كما ينثر صبي صغير أصباغاً بعفوية ودون قوانين مسبقة. في تلك اللحظة، سرحتُ بفكري نحو بقية أبقار هولندا، يا إلهي هناك أربعة ملايين بقرة في هذا البلد لا تتشابه مع بعضها، وجميعها تحمل هذا الشكل المرقط وهذه الهيئة التي تبدو متطابقة تماماً لكنها تختلف كل الإختلاف. أربعة ملايين بقرة إذن، وليست هناك إثنتان متطابقتان تماماً من حيث توزيع اللونين الأسود والأبيض علـى أجسامها. يا للتنوع ويا للوفرة ويا لحجم الاختلاف؟! هذا ما أريده، وهذا ما أبحث عنه ليعينني في رسوم الحبر وأعمال الحفر على الخشب التي تستهويني دائماً. وما عليَّ سوى إستثمار وجود مرسمي في الريف، فأُمرر بصري وقتَ ما أشاء على هذا المعرض المتحرك وأتأمل هذه الأبقار، أنظرُ الى هذه البقع السود المتناثرة على سطوحها البيض أو بالعكس. إنها تجريدات من نوع مختلف، تجريدات وهبتها لي الطبيعة في لحظة إستثنائية وسط هذه الحقول والمزارع التي تبدو وكأنها تمتد الى طرف العالم، وبالفعل هي لا تتوقف حتى تصل الى حافة بحر الشمال المحاذي لمقاطعة فريسلاند التي يقبع فيها مرسمي. هكذا أصبحت هذه البقع مصدر إلهام شخصي لي، إلهام في توزيع المساحات على سطوح خشب الحفر والتخطيطات والرسوم التحضيرية لِلَّوحات.
وُفرَة الأبقار هنا، تجعل كل مزرعة عبارة عن معرض تجريدي للكرافيك! فيا للطبعات المختلفة والمتنوعة. حيث لا يستطيع أي رسام مهما علا شأنه أن ينتج ملايين الأعمال غير المتشابهة من حيث التكوين وتوزيع المساحات. هذه هي الطبيعة، وهذا هو سحرها الأبدي، وهذا هو الإلهام الذي تمنحه لنا الاشياء المحيطة بنا. فلأستثمر كل هذه الوفرة وهذا التجدد اللانهائي وهذه الخصوبة في تجديد الاشكال، أستثمرها في رسوماتي التي أنجزها من خلال الحفر على الخشب واللينو. ومثلما أتأمل أعمال فنانين كبار وأستلهم منهم التقنيات وصناعة الأشكال والمعالجات، فها أنا أمام الطبيعة الأم، الطبيعة البكر التي لا تتوقف عن منحنا كل هذا السحر وهذا العطاء. لذا أمسكتُ ألواح اللينو وبدأت بالحفر وأنا أستحضر بقع الأبقار ورقطاتها التجريدية، وكلما مضيتُ مع الحفر أكثر، توضحت الرسومات أكثر، وَبَدَتْ رائحة الحقل وخوار الأبقار وضوء الشمس ماثلة أمامي مثل ينبوع أبدي وخالد.