TOP

جريدة المدى > عام > الباحثون عن الجمال.. حوار مع فرانك ويلتشيك

الباحثون عن الجمال.. حوار مع فرانك ويلتشيك

نشر في: 17 أغسطس, 2021: 11:20 م

أدار الحوار: ستيف بولسون

ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي

القسم الأوّل

الجمال موضوعة ذاتية كما نعرف جميعاً، وهو يتمظهر في أشكال عدّة ؛ لكن ثمة سجلّ تأريخي في الفن والفلسفة يمكن أن يستعين به المرء لمعرفة ماالذي يراه الناس "جميلا" على أساس موضوعي

ماهي الطبيعة الحقيقية للفيزياء المعاصرة؟ هل هي شكلٌ من الفلسفة الأفلاطونية المحدّثة بعد أن ألبَسها الفيزيائيون ثياباً جديدة؟ الفيزياء المعاصرة تتداخل مع المباحث الفلسفية تداخلاً بنيوياً حتى لم يعُد ممكناً تصوّر وجود فلاسفة أصلاء من غير أن يحوزوا تدريباً معقولاً في الفيزياء والرياضيات، وربما كانت معضلة الأسئلة الكبرى The Big Questions الخاصة بالأصول الثلاثة: أصل الكون والحياة والوعي واحدة من أعقد الفضاءات التي تتداخل فيها الإشتباكات المعرفية في العلم المعاصر ويحضرني هنا الفيزيائي (روجر بنروز) الحاصل على جائزة نوبل عام 2020 والذي يرى في الوعي البشري حالة من حالات الوجود الكمومي الخاضع لقوانين ميكانيك الكمّ.

يمكن للمرء أن يتساءل عن طبيعة الاسئلة الجوهرية الكبرى في الحياة وهو يقرأ الكتاب الجديد المنشور في 12 كانون ثاني 2021 بعنوان (الأساسيات: عشرة مفاتيح للواقع) لبروفسور الفيزياء (فرانك ويلتشيك) الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء. عقب قراءتي الأولية الاستكشافية لهذا الكتاب تعمّقت قناعتي بأنّ الفيزيائيين هم بعض أفضل فلاسفة عصرنا (لكنهم ليسوا الوحيدين)، وأنّ فهماً علمياً وفلسفياً أفضل لعالمنا لن يكون متاحاً مالم نحصل على معرفة أولية بأفكار أهمّ فيزيائيي عصرنا وبخاصة أنّ هؤلاء قادرون على تخليق تشبيكات معرفية متداخلة بين الحقول المعرفية، وهو ماصار يُعرفُ بنظرية التعقيد Theory of Complexity التي باتت تشغل موقعاً ريادياً في جبهات العلم المتقدمة في عالم اليوم.

يمثل البروفسور (ويلتشيك) - كما أرى - واحداً من أرقى العقول الفيزيائية التي تعاملت مع نظرية الأنساق المعقّدة، وهو عقل فلسفي غاية في الثراء والفرادة. نشر ويلتشيك أفكاره الفلسفية في عدد من الكتب التي سأورد بعضها أدناه لمن يرغب في الاستزادة من هذا الفكر العلمي - الفلسفي الجميل:

- الأساسيات: عشرة مفاتيح للواقع، 2021 (وهو الكتاب الذي أشرت إليه في مفتتح تقديمي)

- Fundamentals: Ten Keys to Reality , 2021

- سؤال جميل: ايجاد التصميم العميق للطبيعة، 2016

- A Beautiful Question: Finding Nature’s Deep Design , 2016

- واقعيات فنتازية: 49 رحلة عقلية وسفرةٌ إلى ستوكهولم، 2006

- Fantastic Realities: 49 Mind Journeys and a Trip to Stockholm , 2006

- التوق إلى التناغمات: موضوعات وتنويعات من الفيزياء الحديثة، 1989 (صدر مترجماً إلى العربية عن المركز القومي للترجمة في مصر)

- Longing for Harmonies: Themes and Variations From Modern Physics , 1989

أقدّمُ في المادة التالية ترجمة لحوار جميل مع البروفسور (ويلتشيك) أداره (ستيف بولسون Steve Poulson) الذي يعمل منتجاً تنفيذياً في راديو ويسكونسن العام ، كما أنه مؤلف لكتب منشورة نالت مقروئية طيبة، منها كتاب (الذرات وعَدَن: مناقشات عن الدين والعلم)

Atoms and Eden: Conversations on Religion and Science

الحوار منشور على موقع (ناوتيلوس Nautilus) الالكتروني الرصين بتأريخ 14 يناير (كانون ثاني) 2016 . أدناه الرابط الالكتروني لمن يرغب في مراجعة النص الاصلي للحوار فضلاً عن قراءة مواد إضافية في الموقع:

http://nautil.us/issue/32/space/beauty-is-physics-secret-weapon

المترجمة

نحنُ ندرك الجمال عندما نراه. أليس هذا صحيحاً؟ الأمثلة كثيرة، وتمثالُ (ديفيد) لمايكل أنجيلو هو واحدٌ فحسب من هذه الأمثلة. هل يمكننا قول الشيء ذاته بشأن الكون؟ يرى (فرانك ويلتشيك Frank Wilczek)، بروفسور الفيزياء في معهد ماساتشوستس التقني MIT، أنّ بمستطاعنا فعل ذلك ؛ بل ويتوجب علينا أن نفعل ذلك. في كتابه السابق ذي العنوان (سؤال جميل: إيجاد التصميم العميق للطبيعة A Beatiful Question: Finding Nature’s Deep DEsign) يقدّم ويلتشيك مقاربته الخاصة حول أناقة الرياضيات والاتساق المفاهيمي لقوانين الطبيعة.

فاز ويلتشيك بجائزة نوبل في الفيزياء (بالمشاركة مع ديفيد غروس David Gross و إج. ديفيد بوليتزر H. David Politzer) لاكتشافهم معادلات تحكم سلوك واحدة من القوى الاساسية في الفيزياء – تلك القوة المسمّاة التفاعل القوي Strong Interaction التي تربط الكواركات Quarks مع الغلونات Gluons (وهي إحدى الجسيمات الاساسية المعروفة، المترجمة) لغرض تكوين البروتونات والنيوترونات. أظهر إكتشاف هؤلاء الفيزيائيين، وهو المسمّى “ الحرية التقاربية Asymptotic Freedom “ بأنّ جسيمات الكواركات كلما اقتربت من بعضها فإنّ الشحنة بينها تغدو أضعف.

التخصص الفيزيائي الدقيق لويلتشيك هو النظرية الكمومية ؛ لكن تأثير أعماله بدا واضحاً للغاية في حقل الكوسمولوجيا (علم نشأة الكون وتطوّره، المترجمة) وبخاصة في دراسة الثقوب السوداء، والمادة المظلمة، والأحجية القديمة الخاصة بكيفية انبثاق شيء من لاشيء.

سعى ويلتشيك منذ بداياته إلى فهم التصاميم الشائعة في الطبيعة، وقد نما لديه هذا الشغف منذ أن كان طالب رياضيات شاباً، وهو يقول في هذا الشأن:

“ أحببتُ دوماً اللعب مع الانماط، والتفكير بشأن ذلك النوع من التجريد. كنتُ مولعاً دوماً بالمنطق الرياضياتي الذي أراه فرعاً من الفلسفة، كما تملّكني شغف لاحدود له بالنظرية الخاصة بكيفية عمل العقل. درست شيئاً من البيولوجيا العصبية وعلم الحاسوب وأنا في خضم محاولاتي الحثيثة للكشف عن كيفية تداخل الأنماط المجردة في عمل العقل.»

ويلتشيك ليس فيزيائياً نظرياً ذا ريادة في ميدانه حسب بل هو دارس مولع للفلسفة وعاشق محبّ للشاعر الانكليزي ويليام بليك William Blake ومعماري عصر النهضة الايطالي فيليبو برونيلليتشي Filippo Brunelleschi. في محاورتنا التالية له ظلّ ويلتشيك حاضر الفكاهة، لم تفارقه الضحكة، وكان مغتبطاً بالقفز من فكرة إلى أخرى، ولم يختلف الأمر سواء أكان يتحدث عن نظرية الاوتار String Theory، أو فلم ماتريكس، أو الذكاء الفطري للحيوانات، أو التصورات الفلسفية المبتسرة لبعض العلماء على شاكلة نل ديغراسه تايسون.

 

الحوار

 تقول دوماً أن جمالاً يوجد في تصميم الطبيعة. يبدو هذا الامر مسألة يختص بها علم الجمال. هل ترى في هذه الموضوعة مادة علمية؟

- إنها مادة علمية. السؤال الدقيق الذي أحاول مقاربته والحصول على جواب مناسب له هو « هل يضمُّ العالم أفكاراً جميلة في بنيته الأساسية؟ «. وكما ترون فإن هذا السؤال يختصُّ بالعالم من جانب وبالجمال من جانب آخر. الجمال موضوعة ذاتية كما نعرف جميعاً، وهو يتمظهر في أشكال عدّة ؛ لكن ثمة سجلّ تأريخي في الفن والفلسفة يمكن أن يستعين به المرء لمعرفة ماالذي يراه الناس «جميلاً « على أساس موضوعي. يمكن - مثلاً - أن نستشير العلم ومن ثم نقارن المعطيات الناتجة والخاصة بالسؤال التالي « هل أن المفاهيم التي تنبثق من القوانين الأساسية للطبيعة تحوز شيئاً مشتركاً بينها يتماثل مع مايجده عامة الناس جميلاً؟ «.

 هل يبدو أمراً مهما بالنسبة للعالِم فيما لو كان العالَمُ جميلاً؟

- لاأظنُّ أنّ العلم شيء يمكنُ تسويره بجدران عازلة تبعده عن الحياة ؛ لذا أقول: نعم، إنه لأمر في غاية الأهمية لي أن يكون العالَم جميلاً. ثمّ أنّ هذا الأمر ينطوي على سؤال ذي أهمية عملية للفيزيائيين والمهندسين والمصمّمين: في الجبهات المتقدّمة للفيزياء نتعامل مع عوالم فائقة الصغر أو فائقة الكِبر أو فائقة الغرابة، والخبرة اليومية ليست بالدليل الجيّد لنا فضلاً عن أنّ التجارب المعملية يمكن أن تكون صعبة للغاية وباهظة التكلفة ؛ لذا فإنّ مصدر الالهام لنا في هذه الحالات ليس شيئاً مُستلّاً من الخبرة اليومية أو من التراكم الضخم للحقائق بقدر مايتأتّى من مشاعرنا عن: ماالذي يمكن أن يضفي على قوانين الطبيعة قدراً أعلى من الاتساق والتناغم (الهارموني). لطالما إسترشد عملي بموجّهات نابعة من محاولتي جعل قوانين الطبيعة أكثر جمالاً.

 ماهو القانون الجميل؟

- خصيصتان إثنتان تتشاركهما القوانين والمعادلات التي يجدها الناس جميلة. الأولى هي ماأدعوه الحيوية والمقدرة المنتجة حيث يكون بوسعنا الحصول على ناتج أوفر من الجهد المبذول في صياغة هذه القوانين والمعادلات. تجدُ - مثلاً - معادلة ما أو قانوناً ما بواسطة تجميع بعض الملاحظات معاً أو عن طريق تخمين ما، ثم يمكنك توضيح سبعة أشياء أخرى جديدة ؛ عندا تعرفُ أنك تمضي على المسار الصحيح، وهذا هو المقصود بالقول أنك تحصل من هذا القانون أو هذه المعادلة على أكثر ممّا بذلته فيه من معطيات. التناظر Symmetry خصيصة ذات أهمية استثنائية في القوانين الاساسية للطبيعة: التناظر - كما هو مستخدمٌ في الحياة العامة – هو نوع من الغموض لكنه يشيرُ ضمناً (ولو بشكل من الاشكال) إلى التناغم والجمال ؛ أما الاستخدام العلمي له فهو أكثر دقّة من الانطباعات اليومية العابرة والعامة، وقد كان دوماً أمراً مثمراً لأبعد الحدود في النظريات الفيزيائية. إنه تغيير من غير تغيير !. أنت تستطيع عمل تغييرات محدّدة على الاجسام المادية أو على قوانين الطبيعة بغية إحداث تغيير فيها ؛ لكنك في النهاية لاتفعل !. الدائرة - مثلاً - تُبدي صفة تناظرية بمعنى أنك تستطيع إدارتها حول مركزها بأية زاوية تريد؛ ومع ذلك تبقى الدائرة على حالها من غير تغيير. معظم الأشكال الأخرى (مثل المثلثات) تبدو مختلفة عن الدائرة فيما لو أدرتها حول مركزها.

 إذن لو انطلقنا نحو أعمق الهياكل البنيوية للكون (أي قوانين الفيزياء)، هل تقولُ بوجود تناظر بنيوي عميق فيها؟

- نعم. تفكّر في حقيقة أن قوانين الفيزياء هي قوانين أبدية. هذا أمرٌ لايبدو مثل خاصية التناظر، صحيح ؛ لكنه في النهاية أمرٌ ناجمٌ عن حقيقة أن هذه القوانين لاتتغيّرُ مع تقادم عمر الكون ؛ إذن فنحنُ نلمسُ في الحالة تغيراً من غير تغيّر ! وهذا هو جوهر التناظر.

يتبع القسم الثاني

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

أوليفييه نوريك يحصل على جائزة جان جيونو عن روايته "محاربو الشتاء"

مقالات ذات صلة

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر
عام

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

حاوره: علاء المفرجيرواء الجصاني من مواليد العراق عام 1949، -أنهى دراسته في هندسة الري من جامعة بغداد في عام 1970، نشط في مجالات الاعلام والثقافة والفعاليات الجماهيرية داخل، -العراق حتى العام 1978، وفي الخارج...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram