 أحمد الزبيدي

في تقاطعات شوارع بغداد ترفكلايتات رباعية وبألوانها الثلاثية اللاهثة بمصابيحها المتربة حسب برمجتها الكهربائية … يدير ظهره لها (شرطي المرور) الذي يتولى مهمة تنظيم السير حسب (اجتهاده) ومنهم حسب (مزاجه) …

وأحيانا يمرر سيرا طويلا جدا وهاتفه لصق أذنه فينهي مكالمته وسير الشارع بعد أن تمر سيارة مظللة بارتياح.. محظوظة تلك السيارات التي تتقدم على المظللة ذات الدفع الرباعي !! … ليس مشهدا متخيلا، فهذا ما نشاهده يوميا نحن (السائقين).. كنا: عارف الساعدي وأنا في إحدى التقاطعات وكان المشهد لافتًا للنظر، فتأملت واقعنا العراقي ومدى اختزال حقيقتنا المرة بالتقاطعات المرورية.

ما أشبه القوانين العراقية المغبرة بين دفتي كتاب القانون ولفافات أوراق الدستور؛وهي لا تعدو أن تكون بريقا لغويًا متميزًا بألوانه المختلفة ومركونة على أرصفة حياتنا.. نراها بوصفها لغة لا غير لأن من ينظم سير حياتنا هو شرطي (القانون) أو – لنجمله ونجامله – القائد الذي يملك صلاحية منح السائرين إجازة المرور. وحياتنا مرتبطة به جدًا لغياب تفعيل الإشارات القانونية، ولهذا لو أعياه التعب – لا سامح الله – أو تغافل أو عاند … فحياتنا ستتخربط وستحل فوضى عارمة تبرهن على أهمية القائد حتى لو كان مزاجيا أو تلقى اتصالًا (خارجيًا !)

لنعد لمشهد شرطي المرور والإشارات الضوئية ولنتخيل: إشارة تعمل بانتظام، يدعو إلى احترام ألوانها وقوانينها شرطي يتولى مهمة حراسة (القانون) لا أن يكون زعيم قانون حسب اجتهاده ومزاجه … حينئذ ستكون أعين السواق نابهة على الإشارة لا على الشرطي..

ترى كيف سيكون حالنا لو تنازل القائد عن الاجتهادات الفردية لصالح القوانين المؤسساتية التي تكفل عناء إقراراها االمواطنون حين خرجوا من منازلهم الخائفة ليملغطوا سبابتهم بحبر التوثيق ؟ ماذا لو أتاحوا للقانون حريته في تنظيم حياتنا ؟ ليجعلنا خائفين منه ومحترمين له ومطمئنين إليه لا للسدنة والكهان ؟.. وعلى قدر مأساتنا تأتي الأسئلة التي قد نحسن الإجابة عنها – تأمليًّا – ولكن من منا يستطيع أن يختبرها في الشارع العراقي من دون أن يتلفت على مدى الجهات كلها خوفا من (عقوبة) طائشة ؟ ولو مدّينا بصيرتنا لمعرفة نسب الشرطي القائد ومن أين ورث هذا النزوع المدقع نحو السلطة لوجدناها جينات فكرية وثقافية قديمة قدم التشكلات السياسية الأولى في المجتمعات العربية ؛ فإذا أصاب الخليفة وجع رأس من (مرتد) ما فإن تفسير الآية التي تجيز قتله حاضر تحت طيّ لسانه وطيلسانه.. وإن لم يسعفه التفسير فالتأويل فاعل وقادر على قطع سير الدم في عروق المخالفين لنظام المرور ! وما زال القانون (المقدس) هو الفاعل المباشر وغير المباشر في قيادة الحياة وهندسة النظام داخل كيان الدولة ولا شك في أنه مكتنز بقيم إنسانية نبيلة ورفيعة غير أن القراءات المغلقة للنص وتقديس الإجتهاد ضمن نسق إيديولوجي معين هو من يجعل دلالة النص المفتوحة مخنوقة شطر حقيقة واحدة لاغير.. وهذه الحقيقة هي مصدر القوة المادية والمعنوية التي تعضد صلاحيات كبيرة لشرطي تقاطعات حياتنا..