ستار كاووش
أجمل ما يمكن أن يمنحه الإنسان هو القُبلة، بكل ما تحمله من معاني ومحبة وعرفان وإنسجام. ومهما كان نوع هذه القُبلة أو الغاية منها، فهي تقرب الناس من بعضهم وتخلق بينهم نوع من الإنسجام والألفة. هذا الموضوع شغلني كثيراً كفنان،
ورسمته مثل العديد من الرسامين بعد أن إخترت قبلات العشاق والمحبين موضوعاً لي، وحاولتُ أن أجعلها تتناغم مع تكوين اللوحات مثل الموسيقى، وسعيتُ لإيجاد صياغة تشكيلية لهذه القبلات التي تتلاقى من خلالها المشاعر وتسموا بطريقة سحرية عجيبة، هذه القبلات التي جعلت قماشات الرسم أكثر دفءً وإنسجاماً ولطفاً، ومنحتها أجنحة، طارت بها نحو سماوات بعيدة وغامضة.
تناول الكثير من الرسامين موضوع القبلة في لوحاتهم، مثل بيكاسو ولوتريك وشاغال وماغريت ومونك وفرانشيسكو هايز وغيرهم العشرات وربما المئات، ولا ننسى طبعاً القبلة الشهيرة التي رسمها غوستاف كليمت، في لوحته التي تحمل ذات الإسم، والتي أصبحت واحدة من علامات الجمال والإبداع والترف والألفة في المئة سنة الماضية. ومثلما إستهواني هذا الموضوع كثيراً وكان بمثابة درساً جمالياً لي، في معالجات الرسم التي أبحث عنها وأود الإمساك بها، فهو أيضاً كان عقبة أمامي كرسام. وتكمن تلك العقبة في كيفية رسم هذا الموضوع الأزلي بطريقة جديدة، بعد أن رسمه قبلي مئات الرسامين؟ كيف أطبع قبلتي الخاصة على قماشة الرسم؟ هل سأنجح في رسم هذا الموضوع الشائع وأمنحه مسحتي الخاصة؟ وهنا عليَّ أن أحرث أرضاً غير محروثة سابقاً، كي يكون الحاصل شخصياً والناتج يعود لي. هكذا جَرَّبتُ رسم القبلة بإسلوبي وطريقة رسمي ومعالجاتي الفنية، ومن الزاوية الفردية التي أنظر من خلالها لهذا الموضوع، حيث جعلتُ الوجوه تتداخل أحياناً وتذهب أبعد من القبلة، لتنسجم الخطوط والملامح حتى يوشك أن يكون الشخصان في اللوحة شخصاً واحداً، وتكاد لا تُفَرِّق في أحيان كثيرة بين ملامح الرجل وملامح المرأة، حيث إقتربا من ملامح ملاك ساهٍ يحملُ شيئاً من الغموض. نعم هكذا تبدو هيئاتهم، لأني حاولتُ أن أرسم الانسان الخالص، لذا جعلت الحبيبان متماثلان وكأنهما شخص واحد.
الرسم بالنسبة لي هو معادل جمالي لما يحدث حولنا من ضغوطات الحياة. انه نوع من التوازن النفسي مع هذا العالم غير المستقر. من هنا كان موضوعي المفضل في الرسم هو اللحظات الخاصة بين الرجل والمرأة، هذه اللحظات التي تتوزع بين العاطفة والرغبة واللذة والإنغماس في الآخر، وكانت القُبلة هي الثمرة التي سقطت من شجرة العاطفة، ليلتقطها المحبون وهم في طريق نشوتهم نحو فردوسهم البعيد.
أهيء عادة مجموعة من التخطيطات السريعة. أفرشها على أرضية المرسم، وأتأملها من كل الجهات، ثم اختار واحداً منها، وأغيِّر فيه بعض التفاصيل ليكون جاهزاً للتنفيذ على قماشة الرسم، وهكذا قمت برسم الوجوه التي تتقارب مع بعضها وتتداخل ملامحها بحنو وتغيب مع بعضها، رسمتُ المحبين الذين يُقَبِّلونَ بعضهم في عشرات اللوحات وعرضت ذلك في معارض عديدة، منها مشاركتي في البينالي الذي أقيم في الكويت، والذي حصلت فيه على جائزة ذهبية عن لوحتي التي رسمت فيها حبيبين يتداخل جسديهما ووجهيهما وكأنهما شخص واحد، بينما مظلة كبيرة تغطيهما من الأعلى، رمزاً للغواية والدفء والإنسجام، إنها البيت الذي يجمعهما ويقربهما من بعض أكثر، بعد أن تتداخل التفاصيل وترتعش الأصابع وتغيب العيون وتسموا العاطفة.
في كل مرة أعرضُ مثل هذه الأعمال في معرض، وحتى بعد أن ينتهي العرض وتذهب اللوحات بعيداً لتستقر في أماكنها الجديدة، أشعر بأن هذه القُبَل ستخرج من اللوحات، وتعود لي يوماً من خلال الناس الذين أحببتهم وقاسمتهم أشياء جميلة. وهكذا كلما أنتهي من رسم لوحة، أتأملها وهي مازالت طرية على مسند الرسم، مفكراً كيف ستطير بأجنحتها بعد قليل نحو قاعة المعرض لتطبع نفسها على وجوه الحاضرين ثم تعود لي بهيئة فراشة أو طيف أو… سلام من الوطن.