TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > (النبي) لجبران خليل جبران

(النبي) لجبران خليل جبران

نشر في: 4 يونيو, 2010: 04:24 م

هذا أول كتاب أصدره جبران باللغة الانجليزية، وذلك عام 1923م ، فكان له الدويّ الهائل في الولايات المتحدة الأمريكية، ما لم يكن جبران يتوقعه، وسبب هذا الانتشار العظيم الذي أحدثه " النبي" تلك المسحة الشرقية الصوفية الرومانطيقية التي تغلف فصول الكتاب، وهذه اللغة التي تعودها الناس في الكتب المقدسة وحدها، ثم هذا النضوج التام الذي كشف عن كنوز فكرية عالمية تضمّنها كتاب النبي ، فلم تكن أحداثه أو أشخاصه وقفاً على المجتمع الشرقي عامةً،
 واللبناني خاصة، كما كانت الحال بالنسبة للكتب السابقة التي وضعها جبران قبل " النبي" ، وإنما شملت أحداث الكتاب وأشخاصه كل مكان وزمان ، لأن المُثُل الرُوحية ، والقِيم العُلا هي بنات الفضيلة الإنسانية التي لا تتبدل بتبدل المراحل الزمنية، والإطارات المحلية.ولقد كان ينعقد شبه إجماع ، لدى الكتاب والنقاد ، أن النبي هو ذروة الإنتاج الجبراني ، بحيث أن كل ما سبقه تمهيداً له ، وكل ما لحقه خلاصة منه. ومن ذلك قول الناقد الأمريكي " برز باين": (( لو كنت من المؤمنين برجوع المسيح إلى الأرض ، لأيقنت أنه عاد في شخص جبران هذا)).افتتح جبران كتابه بالحديث عن مدينة " أورفليس" التي يقول فيها أن " النبي" أو " المصطفى" أو " المختار الحبيب" - كما يسميه في الكتاب – انتظر فيها إثني عشر عاماً عودة سفينته، لتحمله إلى جزيرته التي طال عنها غيابه ، ويصور ساعات الوداع ومادار في نفسه وقتها...وهذا شيء مما جاء في هذا المقطع: (( كثيرة هي أجزاء روحي التي فرقتها في هذه الشوارع و كثير هم أبناء حنيني الذين يمشون عراة بين التلال فكيف أفارقهم من غير أن اثقل كاهلي و أضغط روحي !فليس ما أفارقه بالثوب الذي انزعه عني اليوم ثم ارتديه غدا , بل هو بشرة أمزقها بيدي ، كلا و ليس فكراً أخلفه ورائي بل هو قلب جمّلته مجاعتي و جعله عطشي رقيقاً خفوقاً ، بيد أني لا أستطيع أن أبطئ في سفري )).وقبل الوداع والفراق يأتيه الشيوخ والكهان (سكان هذه المدينة) يرجونه ألا يفارقهم ، وهنا تخرج امرأة عرّافة تدعى" المطرة" وكانت أول من آمن به وطلبت منه أن يخطب فيهم قبل أن يفارقهم ، حتى يثبت كلامك فينا ونتوارثه جيلاً بعد جيل.وراحوا يسألونه فيجيبهم ، وقد دارت خطبه حول مواضيع المحبَّة، والزواج ، والأبناء ، والعطاء ، والغذاء، والعمل، والترح، والفرح، والمساكن، والثياب، والبيع والشراء، والجرائم والعقوبات، والشرائع، والحرية، والعقل، والعاطفة، والألم، ومعرفة النفس، والتعليم، والصداقة، والحديث، والزمان، والخير والشر، والصلاة، واللذة، والجمال، والدين، والموت، وكل ذلك بأسلوب شبيه بما تعودناه في الكتب المقدسة.وقد ذهب البعض وأنا أتفق معهم إلى أن (النبي) ينطوي على رموز وتلميحات ، فالنبي هو جبران نفسه، وأورفليس هي أمريكا، وجزيرة النبي هي لبنان، والمطرة هي ماري هاسكل. يتميز كتاب (النبي) عن بقية مؤلفاته ، أنه هادئ النبرة ، لايتسم بالعنف الذي تتسم به كتبه ، أيضاً يظهر لنا وبقوة النظرة الشاملة التي عمد إليها جبران ، والفكرة المضغوطة في عبارات قلائل، كما يتسم ببعض الغموض والإبهام، مما يجعلنا لا ندرك في يسر، المعنى المباشر الذي يقصد إليه كاتبنا ، وكأني بجبران قد تبين هذا في أسلوبه ، فإذا هو يعمد إلى الدفاع عن نقسه، في بعض البراعة، قائلاً: (( إن رأيتم في أقوالي غموضاً،فلا تحاولوا شرحها ، لأن الغموض مبدأ كل الأشياء، لكنه ليس نهايةً لها ، وأودُّ أن تذكروني مبدأ لا نهاية .فالحياة ، وكل ما يحيا ، وما ينشأ في الضباب، وفي الغموض، لا في البلور الصافي، ومن يدري أن البلور ليس إلا ضباباً متبدداً...))حين تناول جبران المحبة فقال:  إن المحبة تكللكم فهي أيضا تصلبكم , وكما تعمل على نموكم هكذا تعلمكم و تستأصل الفاسد منكم ، و كما ترتفع إلى أعلى شجرة حياتكم فتعانق أغصانها اللطيفة المرتعشة أمام وجه الشمس ، هكذا تنحدر إلى جذورها الملتصقة بالتراب و تهزها في سكينة الليل المحبة تضمكم إلى قلبها كأغمار الحنطة، و تدرسكم على بيادرها لكي تظهر عريكم، و تغربلكم لكي تحرركم من قشوركم ، و تطحنكم لكي تجعلكم أنقياء كالثلج و تعجنكم بدموعها حتى تلينوا، ثم تعدكم لنارها المقدسة لكي تصيروا خبزا مقدساً يقرب على مائدة الرب المقدسة، كل هذا تصنعه المحبة بكم لكي تدركوا أسرار قلوبكم فتصبحوا بهذا الادراك جزءاً من قلب الحياة).و (المحبة لا تعطي إلا نفسها , ولا تأخذ إلا من نفسها، المحبة لا تملك شيئا و لا تريد أن يملكها أحد ؛ لأن المحبة مكتفية بالمحبة،أما أنت إذا أحبتت فلا تقل : " إن الله في قلبي " بل قل بالأحرى : " أنا في قلب الله). جاءت عنده أقوى من القوة، وأعظم من الخيال، فنجد جبران في مذهبه هذا ، أصدق من نيتشه، ووليم بلايك (( يقول جبران في غير هذا الكتاب: إن قوة الإنسان وخياله أنتجتا القنبلة الذرية ، ولكن من يدفع شر القنبلة الذرية سوى مبدأ عُلوي: مبدأ المحبة؟!))وبمثل هذه الروح ، يتحدث جبران عن العطاء ، فبعد أن تكلم عن المُعطِي اشار إلى المُعطَى بقوله : (( أما أنتم الذين يتناولون العطاء و الإحسان و كلكم منهم فلا تتظاهروا بثقل واجب معرفة الجميل لئلا تضعوا بأيدكم نيراً ثقيل الحمل على رقابكم و رقاب الذين أعطوكم ، بل فلتكن عطايا المعطي أجنحة ترتفعون

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram